لندن – المركز الحسيني للدراسات
"المسلة" …… جدّد المحقق الكرباسي تأكيده بضرورة مأسسة الخطابة وأهمية إيجاد نقابة مهنية تعتني بالخطيب في حياته وتتولى رعاية أسرته في مماته.
جاء هذا التأكيد في الملتقى السنوي الذي عقده المركز الحسيني للدراسات في لندن يوم السبت في الثلاثين من شهر أبريل نيسان 2016م تحت شعار (الخطباء والمنشدون وتطوير مسار الإرشاد وإثراء نفوس العباد) وحاضر فيه كل من الأديب غياث آل طعمة والخطيب الشيخ رشاد الأنصاري.
وأكد المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي، راعي دائرة المعارف الحسينية ومؤلفها، في مداخلته على المتحدثين، إنَّ من أهم عوامل النهوض بواقع الخطابة بما يحقق الدور المرجو من الخطيب في أوساط الأمة وتوعية أبنائها لما فيه خيره الأوطان والأبدان، هو السعي الحثيث الى مأسسة الخطابة وبشكل حضاري إلى جانب تشكيل نقابة الخطباء التي ترعى الخطيب في حياته ومماته، وبهذا يكون الخطيب أكثر استقلالية وحرية في عرض ما يراه مناسبا على الجمهور المتلقي وأكثر تأثيرا على مسارات المجتمع وتحقيق الوعي المطلوب.
وكان المحقق الكرباسي قد أطلق عام 1998م فكرة "النقابة العالمية للخطباء والمبلغين" وأثبت بنودها طي الجزء الأول من "معجم خطباء المنبر الحسيني".
هذا ودعا المحقق الكرباسي الخطباء الى الأخذ بأسباب العلوم الحديثة وزيادة المطالعة وقراءة الكتب وعدم الإكتفاء بالمحفوظات، ولاسيما وأن الطفرة العلمية في مجال المواصلات والإتصالات جعلت المجتمع على اتصال مباشر مع المعلومة، وعلى الخطيب أن يلاحق هذه التطورات حتى يكون لمنبره التأثير المباشر على المتلقي. وانتقد بعض الخطباء ممن يفاخر في العلن بأنه لم يفتح كتاباً منذ عقود تحت زعم الكرامة، عادًّا ذلك من الإغراء بالجهل وتسطيح الأمور ومصادرة عقل المتلقي.
من جانب آخر انتقد المحقق الكرباسي قلة الوعي بالتاريخ الإسلامي وتراث أهل البيت عليه السلام لدى بعض الشعراء فتأتي قصائدهم مجانبة للحقيقة وغير مرضية عند الله ورسوله، كما دعا المنشدين الى توخي الحذر في استخدام الأطوار، مستحسنًا في الوقت نفسه التطوير في طريقة الإلقاء واستخدام الأطوار المؤثرة بعيدًا عن النمط المطرب، موعزا أمر صوابها من عدمه الى المؤسسة الخطابية التي ينبغي أن ترى النور لتتلافى أخطاء المنبر الحسيني عند الخطباء والمنشدين معًا.
ملتقى الخطباء والمنشدين الذي افتتح الحاج عبد المجيد الصراف فقراته بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، أداره المنشد جعفر الموسوي الذي أشار في مستهل تقديمه للأديب الخطيب غياث آل طعمة للحديث ضمن محور "مسؤولية الخطيب في تصحيح الفكر ووأد الفتن" إلى قدم الخطابة بوصفها: فن ومهارة ظهرت منذ نشأة الإنسان وهي ملازمة له وإن أخذت أشكالا متعددة، وإن الخطابة من حيث التأريخ سبقت الشعر وجميع الآداب ليس عند العرب فحسب بل وعند جميع المدنيات البشرية، باعتبار أن "الخطابة هي القوة القادرة على الإقناع" كما يقول أرسطو.
واستشهد الموسوي في تقديمه ببعض الفقرات المستلة من الجزء الأول من كتاب (معجم خطباء المنبر الحسيني) للمحقق الكرباسي، وربط فيها بين الخطابة وأعواد المنبر باعتبار أن المنبر من منصات الخطابة الموغلة بالقدم كما يفهم من حديث النبي الأكرم محمد(ص) المروي عن جابر الأنصاري: (إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ عصا فقد اتخذها أبي إبراهيم)، كما استشهد الموسوي بنص للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كون: (الخطيب الهادف لسان المرجعية مادام يواكب النفحات القدسية).
غياث آل طعمة، وهو من الخطباء والشعراء العراقيين المقيمين في لندن، تحدث عن مسؤولية الخطيب من وحي تجربته في إرتقاء منبر الخطابة منذ أكثر من ثلاثين عاما، معتبرا أن للكلمة دورها الخطير في حاضر المرء ومستقبله، والكلمة الطيبة دائبة الخير دائمة العطاء كما قال تعالى في محكم كتابه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، وأما كلمة الشر فهي وبال على صاحبها في الدارين حيث شبهها القرآن الكريم بالشجرة الخبيثة: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
ونوّه آل طعمة الى المسؤولية المزدوجة بين الخطيب والمستمع باعتبار أن الخطابة عبادة قبل أن تكون صنعة، لإن الإنسان وما يسمع ويتلقى كما في الحديث الشريف عن الإمام محمد بن علي الجواد(ع): (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس)، وهذا الحديث يدلنا على خطورة الكلمة من المتحدث وجليل وقعها على المتلقي، وعظم خطب الكلمة الكاذبة والإعلام المراوغ على قلب الحقائق وصرف بوصلة المجتمع عن الطريق السوي، مثبِّتًا أن الخطيب بشكل عام والخطيب الحسيني بشكل خاص تقع عليه مسؤولية كبيرة في نقل التراث الإسلامي السليم وعرضه، لأن النقل الخطأ يصبح بمرور الزمن موروثا قد يتعارض مع الحكم الشرعي ولاسيما مع غياب المؤسسات الخطابية التي تضع للخطيب خارطة طريق في التعامل مع الرواية وترشده عند الخطأ وتجنبه الكوارث المعرفية التي تبدر بين الفترة والأخرى من هذا الخطيب أو ذاك.
واعتبر آل طعمة أن من مهمات الخطيب هو تشخيص الخطأ وإيجاد الحلول لها من تراث الإسلام الغني والقراءة الواعية لحوادث الأيام ووقائعها، ولكنه أكَّد في الوقت نفسه أن هذه المهمة الكبيرة يجد الخطيب من يعارضها ويُصار الى وصمه بشتى التهم أقلها تهمة معاداة الشعائر الحسينية، ومحاربته في شخصيته وعقيدته ومحاربته في معيشته، من هنا اعتبر ان ارتقاء المنبر مسؤولية خطيرة، معبراً عن أسفه لما آل إليه المجلس الحسيني في الفترة الأخيرة حيث أصبح مهنة أنصاف الخطباء، داعياً الى وقفة شجاعة من النفس ونقد المنبر من أجل إغنائه وتصحيح الخطل وإرشاد الخطيب الى ما يبدر على لسانه من زلل.
ويصاحب الخطابة الحسينية الإنشاد من مدح ورثاء، وهذا ما تناوله الخطيب العراقي الشيخ رشاد الأنصاري في المحور الثاني من الملتقى بعنوان "دور المنشد في تقويم العواطف الجياشة"، حيث قدّم جعفر الموسوي في مستهل المحور الثاني نبذة مختصرة عن نشوء فن الإنشاد في الأفراح والأتراح ما قبل الإسلام وما بعده بوصفه من الفنون التي تظهر معالم الشخصية الممدوحة أو المندوبة بخاصة إذا كانت من رواد الخير والمعرفة والإصلاح كالإمام الحسين بن علي(ع)، مستشهداً بنص للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي وفيه: (الإنشاد صنيعة النبلاء والشرفاء مادام لم يتخطَّ هدف الأوصياء)
الشيخ الأنصاري، تناول بالشرح مفهوم الإنشاد واستعمال الطور في محاكاة النفس الإنسانية وشدّها الى الشخصية التي يدور حولها المدح أو الرثاء، مستشهداً بالمنشد أبي هارون المكفوف الذي حضر عند الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) فقال له عليه السلام: (يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السلام، قال فأنشدته فبكى. فقال: أنشدني كما تنشدون. يعني بالرقة، قال فأنشدته:
امرر على جدث الحسين … فقل لأعظمه الزكية
قال فبكى ثم قال زدني، قال فأنشدته القصيدة الأخرى، قال فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر، قال فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحدًا كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنة).
وأضاف الأنصاري في معرض الحديث عن العلاقة بين الخطيب والمنشد، أنهما يلتقيان ويفترقان فبينهما خصوص وعموم من وجه، فهما يلتقيان من حيث المسؤولية الملقاة على عاتقهما تجاه المجتمع بتقديم الأحسن والأفضل بما فيه رقي الناس ورفعتهم واحترام ذوقهم. ويفترقان من حيث أن المنشد والمداح في الأعم الأغلب يقرأ لشعراء آخرين دون أن يكون له رأي فيما ينظمه الشاعر، في حيث أن الخطيب يلقي على المجتمع ما يراه صائباً متوسلاً بالبحث والمعرفة وبجهد ذاتي. ورأى أن الخطيب ورغم قراءته لشعر الشعراء فإن له قدرة الإختيار على خلاف المنشد الذي يكون محكوما في الأعم الأغلب بقريحة الشاعر، من هنا فإن الشاعر الناجح هو الذي يأتي بالصورة الواقعية للحدث وبمفردات خلّاقة تلامس الصدق في الوصف والنقل فيكون شعره مقبولا عند الخطيب والمنشد وذا وقع على المتلقي إن جاء من لسان الخطيب أو حنجرة المنشد، لأن الشاعر هو لسان الأمة وعليه تقع مسؤولية إضاءة دربها لا العمل على تجهيلها.
وفصّل الشيخ الأنصاري القول في الملازمة بين القصيدة والطور، منتقدًا استخدام الأطوار الغنائية في المدائح والمراثي الحسينية، فكما على الخطيب ان يختار الموضوع الحسن كذلك على المنشد أن يختار الطور الحسن في استدرار العاطفة، كما على الشعراء مسؤولية الاستخدام الحسن للاستعارات الأدبية من مفردات القرآن في ثنايا صدور الأبيات وأعجازها، بلحاظ أن الإمام الحسين(ع) عَبرة كما قال عن نفسه: (أنا قتيل العَبْرة، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر)، فالمؤمن هو الذي يسكب العَبرة ويعتبر، وعلى من له علاقة بالمنبر الحسيني من خطيب أو شاعر أو منشد أن يسعى لترشيد وعي الأمة وعواطفها ومشاعرها بالوجهة التي أراد لها الإمام الحسين(ع) وهي وجهة إصلاح المجتمع، ولذلك فعلى الناظم أن يتشرب الثقافة الإسلامية السليمة حتى تنطق كلماته بالصواب فيجري الحق على لسانه وبصوت المنشد والمداح والناعي والرادود.
ولإن الشعر من الأدوات الرئيسة في الخطابة والإنشاد، فإن فقرة الشعر كانت حاضرة في الملتقى حيث ألقى الأديب العراقي الدكتور حسين رشيد الطائي قصيدة بالمناسبة بعنوان "السائرون على درب الإباء" أثنى فيها على الخطباء والمنشدين والمداحين والراثين، قال في المطلع:
تحيةُ الله موصولٌ بها العددُ … للسائرين على درب الإبى خلدوا
وتنوع الحضور في ملتقى الخطباء والمنشدين من نساء ورجال ومن جنسيات مختلفة، مما انعكس ذلك على العدد الكثير من المداخلات والأسئلة، حيث تداخل فيها كل من: الشيخ حسن مسعود داعيا الخطيب الى استخدام وسائل الاتصال الحديثة مثل الحاسوب اليدوي حتى يرفع عنه حمل الحفظ وثقله والعمل على تجديد المنبر الحسيني. فيما اعتبرت الباحثة حنان عزيز المنبر الذي يرتقيه الخطيب أو المحاضر أو المنشد مسؤولية عظيمة ولذلك ينبغي الاستفادة منه بما ينفع الناس ويرفع من مستوى معارفهم وأخلاقياتهم.
من جانبه تطرق المنشد والرادود الحاج سعد المطوق الى العلاقة بين الخطيب والمنشد وصاحب المجلس وأهمية التفاهم بينهم في إنجاح المجلس الخطابي او إخفاقه، ذلك أن من مقومات المجلس الناجح أن يطلع الخطيب على النقاط التي يحتاجها المجتمع للتطرق إليها وتناولها بالبحث والتحليل وتقديم الحلول، حيث لصاحب المجلس الأثر البيّن في عرض ما يهم المجتمع على الخطيب. الدكتورة زينب مفتاح تناولت العلاقة بين نوع الخطابة والجمهور المتلقي منتقدة بعض المجالس النسائية التي تتصف بالغلو والأخطاء وعدم دقة نظر المتحدثة أو الخطيبة الى نوعية الحضور واستغفالها لمستواه المعرفي. من جانبه لم ير سعيد الخلخالي عيبًا في أن يكرر الخطيب فحوى مجلسه في أكثر مجلس أو موسم خطابي وذلك من باب قوله تعالى: (فذكّر إن نفعت الذكرى) كون الخطيب يحمل رسالة إرشاد ووعظ إلى جانب العلم والمعرفة. الدكتور أحمد سلمان آل طعمة رأى في مداخلته أن الخطباء يستمدون علومهم من علوم أهل البيت(ع) والمؤسسة الخطابية المنضوية تحت لواء المؤسسة المرجعية لها أن توفر للخطيب هذه العلوم وكذلك تعمل على ترشيده وتقويم منبره. الباحثة زينب سعيد أوضحت أن الخطيب أو المنشد حالهما حال كل إنسان قابل للخطأ وهذا الخطأ قابل للتصحيح والترشيد، المستشار القانوني محمد الشهابي ركّز على أهمية تأطير الخطابة في نطاق مؤسسة عالمية داعيا الى تشكيل منتديات في كل مجالات الحياة ومنها منتدى للمؤسسة الحسينية، فيما شدّد الأستاذ محمد وادي على أهمية الخطيب في تجديد قراءاته وثقافاته لمواكبة التطورات الحاصلة.
ويـأتي ملتقى الخطباء والمنشدين في سياق النشاطات الثقافية التي يتبناها المركز الحسيني للدراسات على الساحة البريطانية وفي مشارب مختلفة.