قضيت بضعة أيام في الأردن الذي زرته مدعوا من الأمم المتحدة للحديث في ندوة مغلقة للخبراء عن أوضاع المنطقة، خاصة في سورية والعراق ولبنان وتركيا، علاوة على فلسطين المحتلة، والتقيت في عمان العاصمة بمعظم قيادات النخبة السياسية، وعدد كبير من رؤوساء الوزراء، والوزراء، ورجال إعلام وأكاديميين، وعدت بذخيرة كبيرة من الآراء والتوقعات والمعلومات ومعظمها متشائمة، بالإضافة إلى ثلاثة كيلوغرامات من الوزن الزائد، تركزت في محيط الخصر (الكرش) بسبب كثرة الدعوات (كانت تقتصر في الماضي على الغداء والعشاء وأضيف إليها الفطور حاليا)، وأعجبني أحد الظرفاء الذي قال "من لا يعاني من الكولسترول ليس رجلاً وليس منا".
من النادر أن تجد شخصاً متفائلاً هذه الأيام في العاصمة الأردنية، فالشكوى والقلق من المستقبل العمود الفقري في جميع اللقاءات والندوات والديوانيات، القلق من الحروب التي تسود دول الجوار الأردني (سورية العراق)، واحتمالات تورط أكبر للأردن فيها (الجبهة الجنوبية السورية)، والقلق من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
***
هناك خمس قضايا رئيسية تشكل محور الغالبية الساحقة من النقاشات الساخنة جداً، وتثير الشارع الأردني وترفع منسوب الغضب لدى المواطنين:
الأولى: اتفاق استيراد الغاز مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي وقعتها حكومة السيد هاني الملقي الحالية، وتواجه حملة شديدة جدا من الانتقادات بشأنها، تصل إلى درجة التخوين في بعض الحالات، وشهد الشارع الأردني عدة مظاهرات احتجاجية.
الثانية: تعديل المناهج التعليمية، وحذف بعض الآيات التي تحرض على قتال اليهود، وما يعتقده معدلوها بأنه تحريض على العنف والإرهاب أيضا.
الثالثة: الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسبة التضخم والغلاء والدين العام، والمخاوف من فرض ضرائب جديدة في المستقبل القريب لتقليص عجز الميزانية.
الرابعة: تزايد احتمالات جر الأردن إلى الجبهة السورية الجنوبية، وتفعيلها عسكرياً من حيث تحويلها إلى قاعدة انطلاق للضغط على النظام من خلال تهديد العاصمة دمشق، كرد أو تعويض عن سقوط مدينة حلب الوشيك.
الخامسة: الإرهاب والعناصر المتطرفة التي يتزايد وجود خلاياها في الأردن، والخوف من أعمال تفجير واغتيالات، وآخرها قتل الناشط ناهض حتر أمام مدخل المحكمة.
الأزمة الاقتصادية في الأردن هي الأكثر خطورة، حيث يهدد تفاقمها أمن البلد واستقراره، إذا لم يتم إيجاد حلول سريعة لتنفيس احتقانها المتفاقم، فالدين العام وصل إلى 35 مليار دولار، أي ما يعادل 93 بالمئة من الناتج القومي العام، وتبلغ خدمة هذا الدين حوالي 2 مليار دولار سنوياً، حيث يصل متوسط معدلات الفوائد حوالي 7 بالمئة، وهناك تقديرات تؤكد أن الأردن قد لا يستطيع دفع هذه الفوائد في غضون السنوات الثلاث المقبلة، ناهيك عن الدين نفسه.
الحلول المقترحة ويدرسها المسؤولون حالياً بعناية فائقة، يمكن تلخيصها في أربع نقاط رئيسية تتفرع عنها نقاط أخرى نوجزها كالتالي:
الأولى: المساعدات من دول الخليج {الفارسي}، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، حيث تشكل هذه المساعدات 14 بالمئة من الناتج القومي العام.
الثانية: تشجيع السياحة، وهذا ربما يعني كسر كل المحرمات في بلد محافظ جداً إسلامياً وأخلاقياً (يشهد أعلى نسبة في جرائم الشرف)، والرضوخ لمتطلبات المثلث الأخطر الحتمي (خمر.. قمار.. دعارة)، أو اللجوء إلى السياحة الدينية الإيرانية الشيعية كبديل.
الثالثة: الاستشمارات الخارجية وتشكيل لجان من الخبراء خاصة بها، وجذب المليارات، وإدخال إصلاحات قانونية جذرية لتسهيل حركتها.
الرابعة، فرض ضرائب جديدة على السلع الأساسية، وهناك مؤشرات على أن حكومة الملقي الحالية بصدد فرض موجة ضرائب جديدة في المستقبل القريب على المياه والخبز، تلبية لشروط صندوق النقد الدولي، الأمر الذي ربما يفجر احتجاجات شعبية.
المساعدات الخليجية للأردن تراجعت بشكل ملموس، أو تجمدت بالأحرى، فبينما حصلت مصر على حوالي 29 مليار دولار من السعودية وحدها في السنوات الثلاث الماضية، علاوة على مساعدة نفطية بمقدار 700 ألف طن من النفط شهرياً، لم يحصل الأردن إلا على الفتات، ولم تحقق جهود الدكتور باسم عوض الله، مبعوث العاهل الأردني إلى السعودية، الاختراق المأمول، على صعيد الحصول على مساعدات مميزة، رغم ما يتردد عن علاقته الوثيقة مع الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، ورئيس المجلس الاقتصادي الأعلى، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المملكة.
رئيس وزراء أردني سابق من الوزن السياسي الثقيل، ويعتبر من أبرز الخبراء في الشأن الخليجي، قال لي، إن الأردن كان مؤدباً أكثر من اللازم مع الدول الخليجية، والسعودية على وجه الخصوص، وكان عليه أن لا يطلب مساعدة أو قرض، فهو ليس "متسولا"، وإنما مقابل خدمات أمنية وسياسية كبيرة يقدمها للسعودية مجاناً، ومن بينها حماية الحدود السعودية، ومنع تدفق اللاجئين والإرهابيين عبرها، وتقديم معلومات استخبارية لا تقدر بثمن.
وقال لي رئيس الوزراء نفسه حرفيا "الوقت بات متأخراً الآن، فالسعودية على حافة الإفلاس، وتفرض ضرائب على مواطنيها، ومتورطة في حروب في اليمن وسورية، وتطبق سياسات تقشفية، ولم تدفع الحكومة ديونها لدى الشركات السعودية التي باتت عاجزة عن دفع مرتبات موظفيها"، وبدأت تلجأ للاقتراض من السوقين المحلي والعالمي (طرحت سندات خزينة بقيمة 17.5 مليار دولار في الأسواق العالمية قبل أسبوعين)، وختم حديثه بالقول "لا أعتقد أن الدفع للأردن بات يحتل أي مكانة على أولويات المملكة، وكل ما يقال عن مساعدات سعودية قادمة هو من قبيل التخدير".
لا نعتقد أن الأردن الذي تحكمه أسرة هاشمية تستمد شرعيتها الدينية من "آل البيت" ستقبل بشروط السياحة الحديثة، أي "الخمر والدعارة والقمار"، ولكن رئيس وزراء أردني سابق آخر تساءل "لماذا لا ينفتح الأردن على إيران، طالما أن الدول الخليجية تراوغ في المساعدات، فالسياحة الدينية الإيرانية يمكن أن تشكل مصدراً للدخل لا بأس به للخزينة الأردنية، فهناك مقام الإمام جعفر الطيار في الكرك، ومزارات وقبور وعتبات مقدسة للشيعة في جنوبه، يمكن أن يزورها أكثر من خمسة ملايين سائح إيراني سنويا في الحد الأدنى".
***
مجلة "الايكونومست" الاقتصادية العريقة (تعتبر من المجلات الأكثر تفضيلاً لدى العاهل الأردني)، تحدثت في عددها الأخير (الجمعة الماضي) عن الأردن وأوضاعه الاقتصادية، ووصفت مدينة عمان بأنها الأغلى عربياً، بينما الأجور في الأردن هي الأدنى، وتوقفت عند تراجع نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى 37 بالمئة، بالمقارنة مع 56 بالمئة في الانتخابات التي سبقتها، رغم أن حركة الإخوان المسلمين، الكتلة الأضخم، شاركت في الأخيرة وقاطعت السابقة، ورسمت صورة غير وردية لأوضاع البلاد السياسية والاقتصادية.
في خطابه الذي ألقاه العاهل الأردني عبد الله الثاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي، قال إنه يأتي إلى هذا المنبر الأممي بينما تشهد بلاده انتخابات برلمانية حرة في منطقة تعيش الحروب والاضطرابات وانعدام الاستقرار.
العاهل الأردني كان مصيبا فيما قاله، وطرح واقعاً حقيقياً لا جدال فيه، ولكن هل يستمر هذا الواقع.. ولمدة كم سنة؟ وهل سيتجاوز الأردن أزماته، وحقول الألغام الإقليمية والدولية التي يسير وسطها على رؤوس أصابع قدميه، ويصل إلى بر الأمان سليما معافى؟
نتمنى ذلك..
موقع العالم الاخباري