تشهد تونس حراكا في القطاع السياحي ينبئ بموسم واعد لا سيما وأن البلاد من شمالها إلى جنوبها تعيش على وقع المهرجانات والفعاليات. ويرجح القائمون على مهرجان أقيم بداية الشهر الحالي بمدينة الجم التونسية أن تساهم هذه المدينة في استقطاب المزيد من السياح للمنطقة الساحلية، لا سيما وأن الساحل التونسي يحظى بالنسبة الأكبر من اهتمام زائري تونس.
تونس … يخيل لزائري مدينة الجم التونسية أنه يسمع قعقعة السيوف وزئير الأسود. وهناك من يتلبس عليه الحاضر بالماضي فيجوس بين أروقة المكان في جولات مطولة حالمة.
وقد ركز مهرجان “الأيام الرومانيّة بتيسدريس” في دورته الثانية، والذي اختتم يوم الـ5 من مارس الحالي، بمدينة الجم التابعة لمحافظة المهدية الساحلية التونسية، من خلال عروضه المتنوعة على أخذ زائريه إلى أجواء الحياة في تلك الحقبة الزمنية حيث عاد بهم إلى عهد الإمبراطورية الرومانية.
كما فتح المهرجان الذي أفادت تقارير إعلامية محلية نجاحه بابا لاستقطاب المزيد من السياح لا سيما وأن القائمين على المهرجان ركزوا في تعريفهم للقصر الأثري، أو تِيسْدْرُوسْ كما كان يطلق عليها قديما، على تنويع الأنشطة الثقافية والحرفية والفنية والاستعراضية بالإضافة إلى تقديمهم للأطباق والمأكولات التي اشتهر بها العصر الروماني.
وفي بضع كلمات يمكن القول إن رائحة العهد الروماني تفوح من كل ركن بمدينة الجم لا سيما المسرح الأثري أو كما يعرف في الكتابات العربية القديمة بقصر الكاهنة، علما وأنه أدرج سنة 1979 على لائحة مواقع التراث العالمي من طرف اليونسكو.
وتم تحويل القصر اليوم إلى منصة اعتلاها أشهر الفنانين والموسيقيين العالميين إذ تقام سنويا مهرجانات وحفلات لأهم الفرق خاصة منها السيمفونيات وفرق موسيقى الجاز، بالإضافة إلى أن الفنانة اللبنانية كارول سماحة صورت مشاهد أحد كليباتها تحت عنوان “ذبحني” سنة 2009 بقصر الجم.
وتستقبل مدينة الجم الساحلية من سنة إلى أخرى ما يزيد عن المليون سائح سنويا من مجموع 6 ملايين سائح يتوافدون على تونس.
وأفاد رضا حفيظ المنسق العام للأيام الرومانية للمهرجان لـ العرب الذي نضم مؤخرا بالجم أن المهرجان يهدف إلى توظيف التراث الروماني وخلق مشروع يجمع بين التنشيط الثقافي والسياحي والاقتصادي لمدينة الجم.
ولم تغب عن أيام المهرجان الأطباق الرّومانيّة، فالتعرف على بعضها وتذوقها كانا من بين الفقرات الهامة ضمن المهرجان، حيث يقبل عليها الزائرون لاكتشاف أنواع جديدة من الأكل والأواني المستخدمة في الطهي والتخزين لدى الرّومان.
ومازال القصر من فترة تأسيسه إلى اليوم يمثل مركز مدينة الجم ورمزا من رموزها الرائعة كما أنه صار قطبا سياحيا هاما في تونس.
ويعد قصر الجم الروماني تحفة تاريخية تونسية ورمزا معماريا عالميا (يوجد مثيل وحيد له في العالم يقع في روما)، وهو ثاني أكبر مسرح في العالم بعد مسرح كولوسيوم روما المصنف من عجائب الدنيا السبع.
ويعتبر كوليزي الجم بشهادة العلماء والمؤرخين الأكثر جمالا وصيانة وأكبر بناء أثري روماني في أفريقيا، حيث يمتز بشكله الدائري الكلي وهو الوحيد الذي مازال محافظا على معالمه الأصلية التي لم تتغير كثيرا.
وتحيط بالقصر مدينة أثرية رومانية لا تزال أثارها قائمة والمثير في الأمر أنه غير بعيد عن هذا المعلم الروماني الضخم يوجد قصر روماني آخر أقل حجما يتسع لـ200 شخص لم يبق من آثاره إلا القليل وقد حيرت هذه المدينة الصغيرة المؤرخين كونها كانت مدينة بسيطة لا يتعدى سكانها الـ20 ألف نسمة تحت الحكم القرطاجني.
ويعود بناء هذا المسرح إلى العهد الروماني حيث أنشأ سكان مدينة تِيسْدْرُوسْ (الجم حاليا) الأثرياء مسرحا لهم يتسع لألفي شخص سنة 238 ميلادية في عهد حاكم مقاطعة أفريكا غورديان الأول (حوالي159 م – 238 م). وامتد عصر الإمبراطورية الرومانية من 31 قبل الميلاد إلى 476 ميلاديا.
ووفق المعطيات التاريخية والمراجع فإن قصر الجم شيده القائد الروماني غورديان الثاني الذي قاد انتفاضة على إمبراطور روما في ذلك العصر وأقام قصرا خاصا به سعى من خلاله لأن يكون متميزا ويفوق بعظمته وجماله قصر الكوليزي بروما.
وكان لغورديان الثاني ما أراده حيث نجح في تصميم قصر خال من الأخطاء الهندسية التي ميزت فن العمارة في عصره على مستوى الشكل، وتتسع مدرّجاته لـ35 ألف متفرج.
ويقع تحت حلبته رواقان يصلهما الضوء من الفتحة الوسطى للحلبة إضافة إلى فتحتين من جانبي الحلبة كانت تستخدم لرفع الوحوش من أسود ونمور والمصارعين من أسرى الحرب حيث كان المصارعون والوحوش يأسرون في غرف تحت الحلبة ليتم إطلاقهم في الأعياد والمناسبات الضخمة التي تشهد إقبالا جماهيريا كبيرا من العامة والنبلاء الذين يجلسون في المدرج لمشاهدة مصارعات الوحوش ومعارك المصارعين من أسرى الحروب وسباقات العربات.
وتشير المصادر إلى أن هذا المعلم الضخم شهد العديد من المعارك كما أن الملكة البربرية “ضميا” الملقبة بالكاهنة احتمت به أثناء الفتح الإسلامي أوائل القرن الثامن الميلادي لأفريقية مع جيشها لمدة أربع سنوات إثر هزيمتها في المعركة الثانية أمام القائد حسان بن النعمان.
وفي سنة 1695 تم هدم الجانب الغربي للقصر بأمر من باي تونس بعد أن اتخذ السكان هذا المعلم حصنا لهم في ثورتهم ضد حكم الباي في ذلك الوقت.
ويزخر هذا القصر الروماني بالعديد من القطع الأثرية النادرة في العالم نقل بعضها لمتحف الجم والبعض في متاحف أخرى، فضلا عن نحو 30 موقعا رومانيا تم اكتشافها عبر الحفريات أبرزها منزل أفريقيا الذي يحتوي على قطع نادرة من الفسيفساء التي تصور الحياة اليومية لسكان روما وطرق عيشهم.
ومثل إنشاء أول مهرجان للموسيقى السيمفونية في تونس منذ 1986، والذي يقام سنويا منذ ذلك التاريخ بقصر الجم، فرصة هامة لاستضافة العديد من الأسماء العالمية.
وبعد ست سنوات على الثورة التونسية يعتبر استتباب الأمن أساسيا لإعطاء دفع للسياحة في تونس البلد الوحيد من بلدان الربيع العربي الذي نجح في انتقاله الديمقراطي. وقد أفاد ممثلون لقطاع السياحة في افتتاح معرض برلين للسياحة الأسبوع الماضي أن السياح الغربيين يواصلون العودة إلى الوجهة التونسية منذ مطلع 2017.
وبحسب أرقام الديوان الوطني للسياحة في تونس فإن عدد الزوار الدوليين بلغ 231 ألفا و336 ألفا في يناير و190 ألفا و966 ألفا في فبراير 2017 أي بزيادة على التوالي بلغت 19.8 بالمئة و38 بالمئة.
وقال ناجي بن عثمان المدير العام المساعد للديوان في مؤتمر صحافي “شكلت 2016 إجمالا بداية عودة الوضع الطبيعي في تونس مع سنة بدون حوادث في المستوى الأمني وتعزز هذا الارتفاع في شهري يناير وفبراير من 2017”، مضيفا “آفاق صيف 2017 تبدو إيجابية”.
وتتزامن هذه العودة التدريجية للسياح الأجانب أيضا مع رفع تدريجي وجزئي لمنع عدة دول لمواطنيها من زيارة تونس لدواع أمنية.
كما أن تونس تزخر خلال موسم الربيع بالعديد من الفعاليات والمهرجانات، إذ يستعد مهرجان “الجاز في قرطاج” لاستضافة نخبة من أشهر الموسيقيين العرب والعالميين في دورته الـ12 المزمع انطلاقها في الـ31 من مارس الجاري.
وقال مراد مطهري مدير المهرجان في مؤتمر صحافي عقده في العاصمة التونسية إن “أسماء معروفة ستحيي التظاهرة الموسيقية السنوية تلبية لرغبة الجماهير”.
ومن المنتظر أن تعيش عدة مدن تونس على وقع الدورة 12 لمهرجان الجاز في قرطاج المزمع عقده خلال الفترة من 31 مارس الجاري إلى 9 أبريل المقبل.
وسيشارك في التظاهرة الموسيقية 21 فنانا بين عازف ومغن من فلسطين ومصر وإيطاليا وإسبانيا والجزائر والمغرب والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والسويد والنمسا.
وذكر مطهري أن الدورة الـ12 من المهرجان تحمل الجديد في طياتها على غرار حفل موسيقي مفتوح للعموم ومجاني سيقام في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة التونسية في 30 مارس الجاري وسيكون بمثابة إشارة انطلاق فعاليات المهرجان التي تنطلق رسميا في الـ31 من نفس الشهر.
وقال إن “المهرجان سيقدم عروضا فنية بالمدن الداخلية على وجه الخصوص في مدينة سوسة (شرق) حيث ستقام في المدينة ثلاث حفلات موسيقية”.
وأشار أنه من المنتظر أن يحضر نحو 30 صحافيا أجنبيا لتغطية هذه التظاهرة الثقافية التونسية العالمية التي تنعقد للمرة الـ12 منذ تأسيسها في العام 2006. وتعيش تونس هذه الأيام شهر “الفنون التّشكيليّة” الذي يختتم يوم 10 أبريل المقبل، مما يشكل فرصة لمحبي الفنون الجميلة لمتابعته.
ويبدو أن المشهد السياحي في تونس تلوح في أفقه بشائر موسم واعد لا سيما بعد تصريح رئيس مكتب المستشارية بألمانيا بيتر ألتماير أن الائتلاف الحاكم في بلاده المكوّن من الاتحاد المسيحي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل والحزب الاشتراكي الديمقراطي قرّر في البرلمان الألماني بوندستاج إعلان الجزائر وتونس والمغرب كوجهات آمنة.