بقلم : د. محمد فتحى راشد الحريرى
العزاء معجميا بمعنى الصبرعن كل ما فَقَدْت، وقيل: حُسْنُه، عَزِي يَعْزى عَزَاءً، ممدود، فهو عَزٍ.
ويقال: إنه لعَزِيٌّ صَبُورٌ إذا كان حَسَنَ العَزَاء على المَصائِب.
وعَزَّاه تَعْزِيةً، على الحذف والعِوَض، فتَعَزَّى؛ قال سيبويه: لا يجوز غيرُ ذلك. قال أَبو زيد: الإتمامُ أَكثر في لِسان العرب، يعني التفعيل من هذا النحو، وإنما ذكَرْت هذا ليُعْلَمَ طريقُ القِياس فيه، وقيل: عَزَّيتُه من باب تَظَنَّيْت، وتقول: عَزَّيتُ فلاناً أُعَزِّيه تَعْزِيَةً أَي أَسَّيْته وضَرَبْت له الأُسى، وأَمَرْتُه بالعَزَاء فتَعَزَّى تَعَزِّياً أَي تَصَبَّرَ تَصَبُّراً.
وتَعازى القومُ: عَزَّى بعضهم بعضاً؛ مرويّ عن ابن جني.
والتَّعْزُوَةُ: العَزاءُ؛ حكاه ابن جني عن أَبي زيد، اسم لا مصدرٌ لأَن تَفْعُلَة ليستْ من أَبْنِية المصادر، والواو ههنا ياءٌ، وإنما انقلبت للضَّمَّة قبلَها كما قالوا الفُتُوّة.
وعَزَا الرجلَ إلى أبيه عَزْواً: نسبه، وإنه لحَسَن العِزْوةِ. قال ابن سيده: وعزاه إلى أَبيه عَزْياً نَسَبه، وإنه لحَسَنُ العِزْيَة؛ عن اللحياني. يقال: عَزَوْتُه إلى أَبيه وعزيتُه، قال الجوهري: والاسم العَزَاء.
وعَزَا فلانٌ نفسَه إلى بني فلانٍ يَعْزُوها عَزْواً وعَزَا واعْتَزَى وتَعَزَّى، كله: انتَسَب، صِدْقاً أَو كَذباً، وانْتَمى إليهم مثله، والاسمُ العِزْوَة والنِّمْوَة، وهي بالياء أَيضاً.
والاعتزاءُ: الادِّعاءُ والشِّعارُ في الحَرْبِ منه.
والاعتزاءُ: الانْتِماءُ.
ويقال: إلى من تَعْزي هذا الحديث؟ أَي إلى مَن تَنْمِيه. قال ابن جريج: حدَّث عطاءٌ بحديث فقيل له: إلى مَن تَعْزِيه؟ أَي إلى مَنْ تُسْنِدُه، وفي رواية: فقُلْتُ له أَتَعْزِيهِ إلى أَحد؟ وفي الحديث: مَن تَعَزَّى بعَزاء الجاهلية فأَعِضُّوه بِهَنِ أَبيه ولا تَكْنُوا؛ قوله تَعَزَّى أَي انْتَسَبَ وانْتَمى. يقال: عَزَيْتُ الشيءَ وعَزَوْتُه أَعْزيه وأَعْزُوه إذا أَسْنَدْتَه إلى أَحدٍ. والعَزَاءُ والعِزْوَة: اسم لدَعْوَى المُسْتَغِيثِ، وهو أَن يقول: يا لَفُلانٍ، أَو يا لَلأَنصار، أَو يا لَلْمُهاجرينَ، ومنه قالت العرب سند الرجل وعصبته من الرجال الأشدّاء "عزوة"، قال الراعي:
فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا ورجالُهم،*** دَعَوْا: يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لعامِرِ
وقول بشرِ بن أَبي خازِمٍ:
نَعْلُو القَوانِسَ بالسيُّوف ونَعْتَزِي،*** والخَيلُ مُشْعَرَة النُّحورِ من الدَّمِ
وفقدت أمي يوم الجمعة الفائت رحمها الله وتعزّيْتُ بها إذ ذكرت الصالحين ممن اتخذتهم قدوة لي في العزاء والتصبّــر !
وكان من أجمل ما وصلني من عبارات التعزية رسالة من الأخ د. عبد الحكيم الأنيس حفظه الله، يقول:
تعزية بأعز الأعزة
فضيلة العلامة الشيخ الدكتور (……) الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد:
فقد تلقينا ببالغ الأسى نبأ انتقالِ (والدتكم) الكريمة إلى العالم الآخر، فدعونا لها بالمغفرة والرضوان، ولحضرتكم بالصبر والسلوان.
وانتقالُ الوالدة مصابٌ كبير أعانكم الله- وسائر الأسرة- على تحمل وقعه، ولكم سلفٌ عظيم ممن عانوا هذه الفاجعة: الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ورجالٌ كبارٌ من أمته.
وقد يحضرني منهم التابعيُّ الجليل إياس بن معاوية وقد بكى في جنازة أمه، فسُئل عن ذلك فقال: كيف لا أبكي وقد كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما؟..
ويحضرني ما قاله الشريفُ الرضي في رثاء أمه:
أبكيكِ لو نقع الغليلَ بكائي
وأقول لو ذهب المقالُ بدائي
إلى أن يقول:
وتفرُّقُ البُعَداء بعد مودةٍ
صعبٌ فكيف تفرُّقُ القرباءِ؟!
وما قاله الشاعر علي بن عبد الرحمن الصقلي كذلك:
مَنْ كان يُخبرني والدارُ جامعةٌ
أنّ الأحبةَ بعد العينِ آثارُ
كلٌ يفارقُ في الدنيا أحبتهُ
وإنما هو إعجالٌ وإنظارُ
وما قاله الملكُ الأمجد بهرام الأيوبي:
ليبجحِ الدهرُ لما ردَّني جزِعا
وكنتُ جَلْداً على أحداثه مِصَعا
إلى أن يقول:
في كل يومٍ أرى في الترب متكأ
لمن أودُّ، وفي الأجداث مضطجعا
يا أمتاه وكم في الناس مِن رجلٍ
مثلي يكابِدُ مِن أحزانه وجعا
مرزّأٍ ذاق طعَمَ الثكل منذهلٍ
مثلي تجرَّع منه الصابَ والسلعا؟
وما قاله الشيخُ أبو الهدى الصيّادي وقد توفيت أمه في حلب وهو بعيدٌ عنها في إسطنبول:
والدة لله كم مرة
أغرقني حظّي بإكرامها
وكم لأجلي في الليالي دعتْ
وأسدلتْ دمعاً بأيامها
والآن عاداني زماني بما
أسمعني من فرط آلامها
وبعدها أحرقَ لي مهجتي
وزاد إضرامي كإضرامها…
وما قاله أحمد شوقي وقد توفيت أمه في مصر وهو بعيد عنها في إسبانيا:
إلى الله أشكو مِنْ عوادي النوى سهما
أصاب سويداءَ الفؤاد وما أصمى
من الهاتكات القلب أولَ وهلة
وما دخلتْ لحماً ولا لامستْ عظما…
وما قاله الشيخ محمد الخضر حسين:
قطّب الدهرُ فأبديتُ ابتساما
وانتضى الخطب فما قلتُ سلاما
لستُ أدري أنَّ في كفيك يا
دهرُ رزأ يملأ العينَ ظلاما
وما قاله الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، والكاتب الأديب أحمد أمين، والمفكر الجزائري مالك بن نبي، والشيخ الأديب علي الطنطاوي، وغيرهم مما لا يتسع المجالُ للإشارة إليه.
متَّعك اللهُ بالأهل والأحباب، ومتَّعنا وإياهم بك، ورفع اللهُ مقامَ (الوالدة) في الأبرار الأطهار، وعظَّم أجركم في الصابرين الراضين المخبتين، وزادكم علماً وحلماً ورفعةً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.