كتب : د.عبد الرحيم ريحان
القاهرة “المسلة” …. الأعياد والاحتفالات فى تاريخ مصر وحدت شعبها فى نسيج واحد دائمًا وفى هذا الصدد نعرض لدراسة الدكتور مصطفى وجيه مصطفى أكاديمى مصر عن الاحتفالات القومية صورة من صور التعايش السلمي في مصر في العصر الفاطمي.
ويشير الدكتور مصطفى وجيه إلى أشهر الأعياد التي اتخذت طابعًا قوميًا في مصر الفاطمية وهو عيد وفاء النيل وكسر الخليج, فقد كان فيضان النيل السنوي منذ القدم محط اهتمام المصريين على اختلاف مشاربهم, يرقبون موعده, ويحسبون حسابه, ولا غرو فقد كان النيل ولا يزال, هو قوام الحياة المصرية وعليه مدارها, وكان المصريون على اختلاف عقائدهم, يهتمون بقياس مقدار الزيادة التي يسببها فيضان النهر يومًا بيوم.
ففي السادس والعشرين من شهر بؤونة القبطي كان يؤخذ قاع النهر أي يقاس ارتفاع منسوب الماء القديم في النهر ليكون أساسًا تحسب عليه الزيادة، ويبدأ إعلام الناس بمقدار الزيادة منذ اليوم التالي مباشرة وفي عصر كل يوم يقيس المشرف على مقياس النيل في جزيرة الروضة مقدار زيادة مياه النيل لكي يعلنها المنادون في الأسواق والطرقات حتى يطمئن الناس، ويبدو دورهم مشابها لدور وسائل الإعلام في عصرنا الحالي حيث نقل أخبار الفيضان اليومية إلى الناس.
وكانت مظاهر الاحتفال بهذا العيد تتم في بداية العصر الفاطمى بمصر بصورة بسيطة, ثم شهدت الاحتفالات القومية لوفاء النيل تطورًا مستمرًا بعد ذلك, وأصبحت تبدأ منذ أن يكمل النهر ستة عشر ذراعًا (علامة الوفاء) فيبدأ منادو البحر في التصريح بعدد الأذرع, حين ذلك يركب الخليفة ويشق البلد حتى ينتهي إلى صناعة الجسر وهناك تستكمل احتفالات الخاصة والعامة.
وقد شاهد ذلك الرحالة الفارسي ناصر خسرو وقال أنه عند الوفاء “… تكون أفواه الترع والجداول مسدودة في البلاد كلها, ويحضر السلطان راكبا ليفتح هذا النهر الذي يسمى الخليج والذي يبدأ قبل مدينة مصر (الفسطاط) ثم يمر بالقاهرة, وهو ملك خاص للسلطان، وفي ذلك اليوم تفتح الخلجان والترع الأخرى في الولايات كلها, وهذا اليوم أعظم الأعياد في مصر ويسمى عيد ركوب فتح الخليج، حينما يقترب هذا العيد ينصب للسلطان على رأس الخليج سُرادق عظيم التكاليف من الديباج الرومي وموشى كله بالذهب ومكلل بالجواهر, ويعد أعظم إعداد بحيث يتسع ظله لمائة فارس، وأمام هذا السرادق خيمة من البوقلمون وسُرادق أخر كبير،وقبل الاحتفال بثلاثة أيام يدقون الطبل وينفخون البوق ويضربون الكوس في الإصطبل لتألف الخيل هذه الأصوات، وحين يركب السلطان يصطف عشرة آلاف فارس على خيولهم سروج مذهبة وأطواق وألجمة مرصعة, وجميع لبد السروج من الديباج الرومي البوقلمون نسجت لهذا الغرض خاصة فلم تفصل ولم تخط وطُرزت حواشيها باسم سلطان مصر وعلى كل حصان درع أو جَوشَنّ, وعلى قمة السرج خوذة وجميع أنواع الأسلحة الأخرى وكذلك تسير جمال كثيرة عليها هوادج مزينة وبغال عَمارياتها كلها مرصعة بالذهب والجواهر وموشاة باللؤلؤ, وإن الكلام ليطول لو وصفت كل ما يكون يوم فتح الخليج “.
ويستكمل ناصر خسرو المظاهر المختلفة للاحتفال بكسر الخليج ذاكرًا أن في ذلك اليوم يخرج جيش السلطان كله فرقة فرقة وفوجًا فوجًا . وفي اليوم الذي ذهب السلطان في صباحه لفتح الخليج استأجروا عشرة آلاف رجل أمسك كل واحد منهم إحدى الجنائب التي ذكرها خسرو وساروا مائة مائة, وأمامهم الموسيقيون ينفخون البوق ويضربون الطبل والمزمار وسار خلفهم فوج من الجيش. مضى والعودة ثانية بنفس الأبهة والعظمة, كما أن العامة كانوا يقومون بتخليق وجوه أطفالهم بالطيب تيمنا بتخليق عمود المقياس في ذلك اليوم.
عيد الشهيد وعيد النيروز
ويوضح الدكتور مصطفى وجيه أن احتفالات وفاء النيل وكسر الخليج لم تكن هي المظهر الاجتماعي الوحيد المرتبط بنهر النيل وأخذ صورة قومية؛ بل إن من الأعياد الدينية الطابع ما ارتبط بالنهر ارتباطًا مباشرًا مثل عيد الشهيد وعيد النيروز، وقد اتخذ الاحتفال بعيد الشهيد طابعً دينيًا وقوميًا في آن واحد, وكان موعده السنوي في ثامن شهر بشنس القبطي ويتم الاحتفال على شكل مهرجان كبير على ساحل النيل بناحية شبرا وهو يرتبط بما كان أقباط مصر آنذاك يعتقدونه من أن النيل لا يزيد في موسم الفيضان إلا بعد غسل أصبع أحد القديسين في مائه وكان هذا الأصبع يحفظ في تابوت بكنيسة في شبرا, وقيل أنه أصبع أحد أسلافهم من الشهداء .
وفي هذا العيد يتوافد الأقباط من شتى أنحاء البلاد, كما يخرج أهل العاصمة على اختلاف أديانهم واهتماماتهم إلى ساحل شبرا لمشاهدة هذا الاحتفال الضخم حيث تقام الخيام بأعداد هائلة على ساحل النيل وفوق الجزر التي وسط مجراه, حيث يجتمع المغنون والمغنيات وأرباب الملاهي والألعاب المختلفة, ويحفل المهرجان بشتى صنوف اللهو والفرح والمرح.
أمّا عيد النيروز وهو عيد رأس السنة القبطية في أول شهر توت، ويغلب على الظن أن عادة الاحتفال بهذا العيد متوارثةعن قدماء المصريين على الرغم من اسمه الفارسي ومعناه اليوم الجديد, فقد كان المصريون القدماء يحتفلون بهذا العيد إكرامًا لنهر النيل وقد اعتبر هذا العيد عيد الربيع الذي تبدأ بعده زيادة مياه النهر الذي يستكمل مياهه في الخريف أو أواخر الصيفوربما ذلك يعد تفسيرًا معقولًا لمشاركة أطياف المجتمع المصري جميعها في الاحتفال بهذا العيد.
وكان الاحتفال بالنيروز يأخذ شكل الاحتفالات القومية العامة التي يشترك فيها المجتمع المصري كله, فيكون اليوم بمثابة عطلة عامة, فتغلق الأسواق وتعطل معها المدارس في ذلك اليوم. قال عنه المقريزي “وكان النوروز القبطي في أيامهم من جملة المواسم فتتعطل فيه الأسواق ويقل فيه سعي الناس في الطرقات وتفرق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة وأولادهم ونسائهم والرسوم من المال وحوائج النوروز..”
وقد نقل المقريزي أيضًا عن ابن زولاق مظاهر الاحتفال التي كانت تتم إذ يقوم المصريون في هذا اليوم برش الماء في الشوارع ويشعلون النار ويطوفون بالأسواق وهم حاملين تمثال على شكل فيل وتماثيل وعرائس ملونة وهم يعرضون ألعابهم ومضاحكهم وزادوا في الألعاب عن الحد حتى استمر الاحتفال بالعيد ومظاهره سنة 364هـ ثلاثة أيام .
كما كان من مظاهر احتفال المصريين جميعا بعيد النيروز هو أن يركب أحد العامة على حمار ويسمونه “أمير النوروز” ومعه جمع كثير من المصريين ويتسلط على الناس في طلب أموال فرضها على دور الأكابر بالجمل الكبار ويكتب مناشير “… ويندب متمرسين كل ذلك يخرج مخرج الطير ويقنع بالميسور من الهبات …” ويتجمع عدد كبير من المحتفلين تحت قصر اللؤلؤة بحيث يشاهدهم الخليفة وبأيديهم الملاهي وترتفع الأصوات، واستمرت احتفالات المصريين في عهد خلفاء المعز وكان لهذا الاحتفال تقاليد معينة ذكرها ابن المأمون في حوادث سنة 517هـ اذ وافق عيد النيروز في العام المذكور التاسع من رجب وقد وصلت بهذه المناسبة الكسوة التي جرت العادة على توزيعها بمناسبة النيروز “… من الطراز وثغر الإسكندرية مع ما يبتاع من المذاب المذهبة والحريري والسوادج وأطلق جميع ما هو مستقر من الكسوات الرجالية والنسائية والعين والورق وجميع الأصناف المختصة بالموسم على اختلافها بتفصيلها وأسماء أربابها …” علاوة على فاكهة معينة توزع في أيام الاحتفال بالنوروز من البطيخ والرمان وعراجين الموز وأفراد البسر وأقفاص التمر القوصي إذ جرت العادة على أكل الناس التمر قبل النوروز علاوة على أقفاص السفرجل والهريسة المعمولة من لحم الدجاج ولحم الضأن ولحم البقر ..وغير ذلك من الأطعمة والفاكهة والحلوى التي خصصت لهذا العيد. ولها حسابات يؤكد ذلك ما رواه ابن المأمون من أن كاتب الدفتر أحضر الإثباتات بما جرت العادة به من اطلاق العين والورق والكسوات على اختلافها وغير ذلك من جميع الأصناف وهو أربعة آلاف دينار وخمسة عشر ألف درهم فضة .
عيد الغطاس
وعن مظاهر الاحتفال بعيد الغطاس ينوه الدكتور مصطفى وجيه إلى نصب الخيام على شاطئ النيل, ويمتلئ النيل بالزوارق والمراكب التي توقد فيها الأنوار ليلا, حيث يشعل في تلك الليلة أكثر من ألف مشعل على الشطوط, ولا يغلق فيها دكان ولا درب ولا سوق, ويتبادل الناس في هذه الليلة الهدايا من أصناف الطعام والحلوى المختلفة وكانت العادة أن يضاء سوق الشماعين وكانت حوانيته لا تزال مفتحة إلى نصف الليل حيث يقصدها كثير من الناس، وكان من رسوم الدولة أن يفرق على جميع أهل الدولة النارنج والليمون والقصب والسمك والبوري برسوم مقررة.
وذلك يوضح أن مصر آنذاك عاشت أقصى مظاهر المشاركة بين المسلمين والذميين , فرغم ما ابتليت به البلاد من مسغبة في هذا العام إلا أن الخلفاء لم يحرموا الأقباط من الاحتفال بعيدهم وإظهار طقوسهم , ليس هذا فحسب بل شارك الخليفة نفسه الأقباط احتفالهم ليكرث مبدأ التعايش السلمي بين رعيته, وحرص المسلمين على مشركة إخوانهم المسيحيين عيدهم والاحتفال معهم وممارسة بعض الألعاب مع بعضهم البعض .