مجابهة التطرف بالفكر والإبداع بكتاب جديد ل سراج الدين
الإسكندرية "المسلة" …. صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب "التحدي: رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف"؛ أحدث مؤلفات الدكتور إسماعيل سراج الدين؛ مدير مكتبة الإسكندرية.
يقع الكتاب في 314 صفحة، ويضم ستة أجزاء؛ يتناول خلالها المؤلف الثقافة في مصر والعالم العربي، نظرة إلى المستقبل من خلال الثورة المعرفية، علامات وأسباب التطرف والعنف، ديناميكية التغيير الثقافي، عناصر الاستراتيجية الثقافية، والبرامج الثقافية الخاصة. كما يضم الكتاب ملاحق للأعلام، الأعمال الفنية والثقافية والحضارية، المصطلحات العلمية، والمؤسسات والمعالم العلمية والثقافية والحضارية.
ويقول سراج الدين في مقدمة الكتاب إن ما يعانيه العالم العربي من توتر ألقى بظلاله العنيفة على دول كثيرة، وما يحدث في العراق وسوريا والصومال وليبيا وأخيرًا اليمن، يؤكد ضرورة أن نسائل أنفسنا مساءلةً نقدية: لماذا أصبحت بلادنا- بلاد العرب والمسلمين- أرضًا خصبة للفكر المتطرف والعنف؟ ويؤكد أن هذا الكتاب يتناول كيفية تحدي التيارات المتطرفة بيننا، كيف نتحداها فكريًّا، وكيف نستطيع استعادة تراثنا الثقافي من براثن أولئك الذين يسعون لاستغلاله، ويحاولون تسخيره لأغراضهم السياسية الخاصة بهم.
ويرى المؤلف أن الهوية ليست أمرًا بسيطًا، بل هي أمر يتنافى مع أحادية الفكر، ويتعارض مع التبسيط المخل الذي يذهب إليه كثيرون في حديثهم عن هذه الظاهرة الهامة. فللهوية مكونات موضوعية، وهي تتكون عبر الزمن من تراكمات التجارب وتداعيات الخيارات التي يمر بها الشخص، ولكن لها أيضًا مكونات داخلية (ما أشعر به تجاه نفسي وتجاه الآخرين) ومكونات خارجية (كيف يراني الآخرون؟ وكيف يتعاملون معي طبقًا لهذه الرؤية؟). وكثيرًا ما يحاول عدد من الناس اختزال الهوية في الجنسية، فيقال هذا مصري وهذا فرنسي وهذا بريطاني، ولكن سرعان ما نجد أن نوعية جواز السفر الذي يحمله الشخص ما هو إلا مؤشر واحد من مؤشرات كثيرة، وعنصر واحد من عناصر عديدة، كلها يسهم في تكوين الهوية.
فمن مكونات الهوية النوع: الذكورة أو الأنوثة، والوضع العائلي: أن أكون أبًا أو زوجًا أو مجرد ابن، أو أخ… أو كل هذا… ومنها أيضًا: المجموعة الإثنية / العرقية التي أنتمي إليها، وكذلك الديانة التي أؤمن بها، وأيضًا اللغة التي أتحدث بها، والمنهج الفكري والسياسي الذي ألتزم به، والعمل أو التخصص المهني الذي أمارسه، والوضع الاجتماعي، محليًّا وإقليميًّا، ودوليًّا الذي أتمتع به .. كل هذه العناصر – بأوزان متفاوتة، تسهم في تكوين الهوية، تلك المعرفة المحددة للذات التي هي أساس تعامل الشخص مع نفسه ومع الآخرين.
ويعدد سراج الدين روافد الهوية المصرية، التي كتب عنها المفكرون في الماضي والحاضر، ومنها: إرث قدماء المصريين، إرث الثقافة الهللينستية (المسماة عند الكثير بثقافة الفترة الإغريقية/ الرومانية)، إرث الثقافة المسيحية العريقة بمصر، إرث الثقافة العربية، إرث الثقافة الإسلامية، وإرث البعد الإفريقي.
ويحاول البعضٌ أن يختزل الهوية في بُعدٍ واحد دون الاعتراف بأن الأبعاد الأخرى لها تأثيرها ولها مكانتها، وأن عالمنا المتعدد الأبعاد كثيرًا ما يتفاعل مع المكونات المختلفة بطرق مختلفة، وأن الذين يفرضون أحادية النظر وأحادية الرؤية يخطئون كل الخطأ، بل يفرضون على الناس خيارات ليست ضرورية، بل تؤدي إلى الاستقطاب الثقافي والصراع الأيديولوجي والتفكك المجتمعي. وأصبحت المجتمعات كلها متعددة الهوية، وإن غلبت عليها صبغة ما، وتطورت هذه الحقيقة للتعددية الجديدة إلى إيجاد مناخ ثقافي ثري في هذه المجتمعات، وإن نجم عنها أحيانًا صدامات بين الجماعات المجتمعية communities التي تعرف نفسها ببُعد من أبعاد الهوية المركبة دون الأبعاد الأخرى.
ويضرب سراج الدين مثالاً لتلك التعددية في مصر وفي الإسكندرية بصفة خاصة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث ظهرت هذه التعددية في الجاليات بتفاعلاتها المستمرة بعضها مع بعض ومع المجتمع المصري العريض، وقد أسهمت في مناخ من الحيوية الثقافية بالإسكندرية، فكانت الإسكندرية المدينة التي ولدت بها الصحف الخاصة المستقلة عن الدولة، فصدرت منها الأهرام أعرق الصحف المصرية، كما صدرت بها أول مجلة نسائية في مصر، كما شهدت المدينة تنمية حضارية سبقت بها العديد من المدن المصرية؛ منها شبكات المياه النقية والكهرباء وخطوط الترام والتليفون، بحيث عُدَّت مدينة أوروبية على أرض مصرية حتى صارت الخدمات البلدية بها يضرب بها المثل خارج مصر. كذلك الحركة الفنية خاصة المسرح الذي شهد رواجًا من قبل الشوام الذين انتقلوا إلى القاهرة فأثروا الحركة المسرحية بها، وأبرزهم روزاليوسف. وقد ولدت بالإسكندرية صناعة السينما المصرية التي أصبحت في منتصف القرن الماضي من أكبر صناعات السينما في العالم، وغير ذلك كثير.
ويرى المؤلف أن هذه ليست أحوالنا اليوم، وعلى مصر إصلاح أوضاعها الثقافية المتردية داخليًّا وخارجيًّا قبل أن تنطلق إلى الساحة الخارجية المتمثلة خمسة دوائر يتناولها بالتفصيل في كتابه؛ وهي: الدائرة العربية، العالم الإسلامي، الدائرة الإفريقية، الدائرة المتوسطية، والدائرة العالمية.
ويقول سراج الدين: "لقد انحطت الثقافة في مصر، فلم تبقَ ساحة للحوار الفكري الراقي، ولم تصبح كما كانت مجالاً مفتوحًا للرأي والرأي الآخر بما يقدمه ذلك من ثراء ثقافي وزخم معرفي، بل صارت البلاد منتدى للاجتماعيات، وغلب الطابع الشخصي والشللي على الموضوعي في العمل العام، حيث غابت الموضوعية والالتزام بالعقلانية والمنهج العلمي، وغاب وضوح الرؤية واختفت الشفافية وسادت الشائعات، فتجد في كل موضوع يطرح تميل الأفواه على الآذان همسًا، ثم يرتفع الهمس ليكون حديثًا على الشفاه، وينتشر الحديث حتى يسمعه كل ذي أذن، وتكتسب الشائعة مصداقية التكرار والشيوع، إلى أن تأتي شائعة أخرى لتحل محلها، ويدور مثل هذا الحديث السطحي في دوائره المفرغة فلا ينتج جديدًا ولا يقدم لَبنة لصرح المعرفة ولا يقيم بناء الثقافة بل يسهم في تقويض مؤسسات المجتمع".
ويضيف: "يؤرقني الوضع الحالي، بما فيه من تردٍّ، وإن كنتُ مرتاحًا للرجاء الداني والأمل البعيد أن تستعيد مصر حياتها الثقافية الراقية على يد الجيل الصاعد من أبنائها، ولكن علينا – الكهول والشيوخ – أن نمكن هذا الجيل الصاعد من أن يتقدم بعطائه بفتح الأبواب بتذليل العقبات وبتقدير الإنجازات".
ويشدد سراج الدين على أهمية أن نتذكر أن هناك قطاعات هامة من الإنتاج الثقافي مثل الفيلم أو المسرح لا يمكن للشباب أن ينتج ويبدع فيه دون مشاركة مؤسسية هامة، فليس كل الإبداع الثقافي مثل الأديب والشاعر الذي ينفرد بقلمه ويختار كلماته، ولذا بات ضروريًّا أن نعيد النظر في الآليات والمؤسسات الثقافية في بلادنا وإعادة صياغتها بما يناسب مقتضيات العصر وتطور التكنولوجيا واحتياجات الشباب.
ويؤكد أنه لا يمكن أن نتخيل الطفرة الثقافية المرموقة إذا كانت مصر مازالت مجتمعًا لا يحترم العلم والمعرفة، ولا يقدر الخيال والإبداع، ولا يسمح للصوت المخالف والرأي المغاير بأن يعبر عن نفسه. إن هذه الأوضاع تحتاج منَّا وقفة صريحة مع أنفسنا، وبصفة خاصة مراجعة أوضاع مؤسسات الثقافة والإعلام والبحث العلمي والتعليم والتعليم العالي وإصلاحها جميعًا.
وهكذا تعود مصر لإسهامها الثقافي المرموق، ونكون جميعًا قد قمنا بدورنا في مجابهة التحدي بالفكر والإبداع.