المدينة المنورة “المسلة السياحية” ….. تعدّ الآثار والنقوش جزءًا من الموروث الإنساني الذي يوثّق تاريخ الأمم والشعوب, وموردًا خصبًا لاستقصاء الحياة الاجتماعية لأمم عاشت في حقب زمنية مضت, وتزخر المملكة العربية السعودية بالعديد من الآثار والنقوش التاريخية التي حظيت باهتمام الدولة إذ تعد امتدادًا لإرث الحضارات الإنسانية التي عاشت على أرض الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، وإحدى الوجهات السياحية في المملكة خلال وقتنا الحاضر.
ووثّقت وكالة الأنباء السعودية في جولة ميدانية في المدينة المنورة العديد من النقوش الأثرية القديمة التي يعود بعضها إلى بدايات القرن الأول الهجري , وتنوعت نصوصها بين أبيات شعرية, وآيات قرآنية, وأحاديث نبوية, وعبارات وعظية, وأدعية, وأسماء أشخاص, وغيرها من النقوش.
وتوجد العديد من النقوش الإسلامية في سفوح الجبال وفي الصخور وعلى ضفاف بعض الأودية داخل المدينة المنورة وفي القرى التابعة لها, حيث تظهر غالبية النقوش الاعتماد على الخط المدني في ذلك الوقت لرسم النقش وحفره على الصخور, والعناية برسم حروفه والحفاظ على مستوى تباعدها بدقة, كما توحي بانتشار الكتابة والقراءة والتعلّم بين أفراد المجتمع المدني, ما يعدّ بمثابة دلائل مادية محسوسة على عراقة الحضارة الإسلامية وانتشار تراثها النفيس, والعناية به حتى وقتنا الحاضر.
ورافق فريق “واس” في هذه الجولة الخبير والباحث المهتم باستكشاف الآثار والنقوش الإسلامية المبكرة بمنطقة المدينة المنورة محمد بن عبدالله الرثيع المغذوي الذي استهل حديثه عن ما تكتنزه المدينة المنورة من آثار ونقوش تمثّل جزءاً من التراث الحضاري والإنساني العريق الذي تحويه الجزيرة العربية, مبيناً أن المدينة المنورة أول عاصمة في التاريخ الإسلامي، وثاني أقدس مكان عند المسلمين بعد مكة، فقد دعا لها النبي – صلى الله عليه وسلم – بالبركة، ومانزل نرى أثر ذلك في زماننا هذا, فقد روي عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت : قدمنا المدينة، وهي أوبأ أرض الله، فقال رسول صلى الله عليه وسلم : (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة).
وقال المغذوي : المدينة المنورة حباها الله تعالى بموقع مميز, جعل منها مدينة محصنة بطبيعتها التضارسية، فتحيط بها الحرار البركانية، فمن شرقها حرة واقم، وفي الغرب حرة الوبرة، وإلى جنوبها الشرقي حرة شوران، ومن شمالها وجنوبها تحتضنها الجبال، كجبل أحد، وجبل عير، والجماوات، فيما تخترقها الأودية من شمالها وشرقها وجنوبها, مما جعل منها أرضاً خصبة للزراعة، وفيرة المياه.
وأفاد أن المدينة المنورة حظيت بنهضة علمية كبيرة، ومباركة بعد هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – إليها فكان من حرصه – صلىالله عليه وسلم – على ذلك أن جعل فداء بعض أسرى غزوة بدر ممن يعرفون الكتابة, تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة, ولم يقتصر اهتمام النبي ﷺ بتعليم الرجال والصبيان فقط بل تعدى ذلك إلى اهتمامه بتعليم النساء أيضاً, فأمر الشفاء بنت عبد العدوية من رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن تعلّم حفصة بنت عمر زوج النبي ﷺ الكتابة ليقتدي به الآخرون في تعليم نسائهم, فانتشر العلم في المجتمع المدني، واهتم المسلمون به منذ فجر الإسلام، وذلك بحفظ القرآن الكريم، وكتابته، وباتباع سنة نبيهم – صلى الله عليه وسلم – وفي تعلقهم بالله – تبارك وتعالى – في عباداتهم، وجميع نواحي حياتهم الاجتماعية.
وبيّن المغذوي أن ذلك يظهر جلياً في الاكتشافات الأثرية لنقوشهم الإسلامية المبكرة على صفحات جبال، وحرار المدينة المنورة، وفي المناطق المحيطة بها، والتي تسمى ببادية المدينة المنورة, مبيناً أن جولاته الاستكشافية أثمرت – بفضل الله تعالى – عن رصده أكثر من ثلاثة آلاف نقش تعود لحقب زمنية عديدة, تم توثيق العديد منها, ولايزال يكتشف المزيد في كل جولة جديدة يقوم بها.
وعدّ النقوش المكتشفة دليلاً مادياً مهماً فيما وصلنا من الآيات والسور ومن السنة النبوية، وفي وشتى العلوم كالأنساب، وعلم التراجم، والأدب، والتاريخ، والخط، واللغة, منها نقوش للصحابة، وللتابعين، والقضاة، وأصحاب الشرط، والحسبة, ممن لهم ذكر في المصادر التاريخية المتقدمة، وفي تراجم رجال الحديث، والإسناد، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما أن للأدباء أيضا الحظ الوافر منها، وللصيادين، والمتنزهين، وعماة الناس في بادية المدينة، وحاضرتها.
وبين أن معظم ما تم اكتشافه هي نقوش لآيات من القرآن الكريم، ونقوش في الوعظ، وفي الدعاء، والوصية، تستند جميعها على أحاديث صحيحة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ونقوش في الرسائل، والشعر، والأخبار، وأخرى توثيقية لملكية أرض أو مجلس أو منزل، أو عين ماء، أو بئر , ومنها نقوش تعريفية لأصحابها.
وأفاد أن أهم ما يميّز هذه النقوش الإسلامية المبكرة, ويعطيها قيمة تاريخية أنها كتبت بالخط المدني الذي كتب به القرآن الكريم، والرسائل النبوية، وغيرها، في القرن الأول الهجري، وفي نصوصها موافقة للكتاب، والسنة النبوية الصحيحة, وأن جُلّ أصحابها هم من سكان المدينة، أو ممن يتردد عليها كثيراً, مضيفاً أن هذه النقوش يعود تاريخها إلى الفترة الزمنية ما بين القرن الأول والرابع الهجري, فيما يوجد بعضاً من تلك النقوش المكتشفة لم يتم التحقّق من زمن تدوينها حيث لم يتم العثور على ترجمة لناقشيها في المصادر التاريخية.
ولفت المغذوي النظر إلى أن من جملة هذه النقوش نقوش لعوائل اشتهرت بالنقش في بعض الأمكنة, كآل البيت، وآل عمر بن الخطاب، وآل الزبير بن العوام، وبني أزهر – رهط عبدالرحمن بن عوف – ومن القبائل تجد لجهينة نقوش تتركز غرب المدينة المنورة باتجاه ديارهم، وتتميّز نقوشهم بالتذكير دوماً بتقوى الله, وصلة الرحم، وتجد لنسائهم نقوشاً مجاورة لنقوش رجالهم, ومن القبائل أيضاً الأوس والخزرج, وتتركّز نقوشهم بالقرب من المدينة المنورة، وعند بساتينهم في أطراف المدينة المنورة, وكذلك قبائل مزينة، وأسلم، وغفار حيث تجد غالبية نقوشهم قد نقشوها في ديارهم، وغيرهم من القبائل ما يشكّل إرثاً مادياً قيماً يجدر بنا الحفاظ عليه ودراسته، وتوثيقه للأجيال القادمة, فهذا أقل ما نقدمه خدمة لتراثنا الإسلامي العريقة.
وذكر أن من العوامل التي أفقدتنا الكثير من الآثار القيّمة في المدينة المنورة وباديتها بعد التمدّد العمراني هي أعمال معدات تكسير الحجارة “الكسارات” وكذلك بناء المنازل من الحجارة في الديار, وكذلك بناء السدود العشوائية للمزارع والآبار بالحجارة, إضافة إلى حالات التعدّي على أودية كاملة بالعقوم الترابية وإقفالها بما تحتويه من آثار أمام الباحثين, معرباً عن أمله في تعزيز الاهتمام بالآثار والنقوش الإسلامية بوصفها كنوزاً أثرية لا تتجدد, مؤكداً أن هذه الاكتشافات الأثرية ترفد المصادر, وتصحّح بعض الأخطاء التي وردت عن التاريخ الإسلامي, وتردّ أيضاً على المشككين في مصادرنا التاريخية.
وأشار المغذوي إلى أهمية توثيق آثار المدينة المنورة وباديتها ودراستها ونشرها ضمن التاريخ الإسلامي العريق, باعتبار أن هذا القدر الوفير من النقوش الإسلامية المبكرة التي تم اكتشافها في صخور المدينة المنورة, يعزّز إمكانية دراسته الخط المدني، والظواهر الكتابية فيه، ومراحل تطوره عبر هذه الحقبة الزمنية المبكرة من صدر الإسلام.
بدوره استعرض مدير فرع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمنطقة المدينة المنورة فيصل بن خالد المدني الجهود المبذولة للعناية بالنقوش الإسلامية ومواقعها, وحصرها وتوثيقها, بوصفها تمثّل جزءاً من التراث الوطني الذي يحظى بعناية واهتمام الدولة – حفظها الله – وخاصة ما يتعلق بالتراث الإسلامي في المدينة المنورة وغيرها من المواقع, مبيناً أن المدينة المنورة تضم الكثير من مواقع الآثار متعددة الفترات, والكثير من النقوش الصخرية والرسومات والتي أهمها النقوش الإسلامية التي ترتبط بالفترة الإسلامية المبكرة, فهي متنوعة الأنماط ومتفرقة الأماكن, إذ يوجد بعضها على سفوح الجبال وأخرى في جوانب الأودية والحرار.
وقال المدني في حديثه لوكالة الأنباء السعودية إنه منذ إنشاء دائرة الآثار في ثمانينيات القرن الهجري الماضي حرصت الدولة على توثيق ودراسة المواقع الإسلامية وترميمها والاهتمام بها، وازداد الاهتمام بها بعد انضمام قطاع الآثار للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني, حيث تم إطلاق برنامج للعناية بمواقع التاريخ الإسلامي, يهدف إلى حصر وتوثيق ودراسة المواقع الإسلامية والنشر عنها، كما صدرت عدد من الأوامر السامية الكريمة بأهمية المحافظة على تلك المواقع بالتعاون والتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، ما يؤكد حرص واهتمام القيادة الرشيدة بتراث المملكة ومكوناته الحضارية.
وبيّن أن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني قامت منذ تأسيسها على حماية مواقع التراث الوطني من خلال التسوير والحماية, وجولات مراقبي الآثار الدورية, بغية الحفاظ عليها من التعديات والامتداد العمراني والزراعي, كما تعمل الهيئة مع الجهات المختصة لضبط كل متعدٍ على الآثار, وتطبيق ما جاء في نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني بشأن تلك المخالفين, بالإضافة إلى تعاونها مع الجهات الحكومية الأخرى في حماية الآثار وتجنب إزالتها أو الضرر بها إلا بعد الرجوع للهيئة وهي الجهة المختصة.
وحول آلية توثيق النقوش الإسلامية المكتشفة أفاد المدني أن التوثيق يكون من خلال المسوحات الميدانية التي تقوم بها فرق الهيئة بشكل مستمر, حيث تعمل على البحث عن المواقع ودراستها وتوثيقها توثيقاً علمياً, وتسجيلها في سجل الآثار الوطني بقطاع الآثار والمتاحف بالهيئة, بالإضافة إلى نشر الدراسات العلمية عنها بالتعاون مع الجامعات الدولية والمحلية والمجلات العلمية ودور النشر المختصة, علاوة على إعداد الأفلام الوثائقية وبثها عبر وسائل الإعلام المتنوعة, كما تستقبل الهيئة من خلال جميع قنوات تواصلها بلاغات المواطنين عن أماكن وجود الآثار والنقوش وتقوم بالوقوف عليها وحمايتها.
وبشأن وجود إحصائية رسمية تتعلق بعدد النقوش الإسلامية المكتشفة في منطقة المدينة المنورة, قال : حرصت الهيئة منذ نشأتها على إنشاء سجل للآثار الوطني يوثّق جميع المواقع الأثرية والتراثية وأماكن تواجدها وكل تفاصيلها, فقد بلغت المواقع الأثرية المسجلة في منطقة المدينة المنورة أكثر من (1382) موقعاً حتى مطلع هذا العام 1440هـ, وماتزال المواقع تكتشف وتسجل خصوصا النقوش الإسلامية والرسومات الصخرية نظراً لانتشارها في جميع أرجاء المدينة المنورة وبكافة طبائعها الجغرافية.