المسلة السياحية
بقلم : د. جودت هوشيار
لم يعد القارئ يبحث اليوم في الرواية عن الجوانب الغامضة لحياة الفرد أو المجتمع في هذا البلد او ذاك ، أي أنها لم تعد المصدر الوحيد للمعلومات ، كما كانت في الماضي . فثمة وسائل أخرى كثيرة أكثر قدرة على التوصيل الآني السريع . كما أن الرواية تخلت عن القيام بالوظائف التي أصبحت اليوم مادة لبعض العلوم الإنسانية كعلم النفس مثلاً . ولكن للرواية وظائف أخرى لا يمكن أن تنهض بها العلوم الإنسانية ، ولا الوسائل الإعلامية ، ولا الفنون الأخرى مجتمعة .
ومن هذه الوظائف وصف وتحليل النفس البشرية في أدق خلجاتها واوعى أحاسيسها ، والتي تختلف عن أية نفس بشرية أخرى .
وظائف ، الرواية كما الفنون الأخرى لا بد أن تكون فردية ، ممعنة في الفردية ، على العكس من وظائف العلوم الإنسانية ، التي تميل بطبيعتها الى التعميم . كما أن الرواية تقوم في الوقت ذاته بتحديد المعايير الجمالية والأخلاقية ، والبحث عن معنى الحياة ، ومصير المجتمع الإنساني . لهذا فإن الرواية لا يمكن أن تموت أبداً. فليس ثمة مجال علمي واحد يمكن أن ينهض بهذه الوظائف جميعاً.
ان الباحث العلمي – بصرف النظر عن المجال الذي يعمل فيه – يحاول الالتزام بأقصى درجات الموضوعية ، وذاتيته المتفردة تخضع لمنهج البحث وأهدافه . أما الكاتب الروائي فإنه يحاول التعبير عن ذاته المتفردة بأعماله الإبداعية .
ولهذا فإن هذه الأعمال تعبر عن علاقة الكاتب الذاتية بعالم الحقائق والقيم والأفكار ، التي تتكون منها الحياة الإنسانية.. ولهذا السبب تحديداً ، نجد أن النصوص العلمية تفقد أهميتها بمرور الزمن ، أما روائع الآثار الفنية فإنها خالدة . فالحقائق العلمية الجديدة تنفي سابقاتها ، أو تصححها ، أو تعمقها.. ولكن لا يمكن لأية حقائق جديدة أن تسلب الآثار الفنية قيمتها وأهميتها.
حقا ان الروايات العظيمة تشكل مصدرا مهما للمعلومات عن العصور التاريخية ، كروايات تولستوي وفلوبير و ستندال ومسرحيات شكسبير على سبيل المثال .
ولكن القيمة الفنية لهذه الأعمال لا تتضاءل مع تعاظم معلوماتنا عن نابليون أو ريتشارد الثالث عن طريق المصادر التاريخية الموثوقة .
وثمة مجالات فكرية وثقافية واسعة –تعالجها الرواية – ليس بوسع السينما أو التلفزيون أو أي وسيلة فنية أخرى أن تقتحمها .
ولكن وجود هذه المنافسة يجب أن يكون حافزا للبحث عن أشكال جديدة لاحتواء المضامين الجديدة. وهذا يعني أن كتابة الرواية اليوم هي أصعب من أي وقت مضى .
لا يمكن للروائي المعاصر أن يكتب روايته ، كما كان يكتبها تولستوي او بلزاك أو فلوبير ، أو حتى جويس أو بروست أو كافكا .. لأن الأدب الروائي كأي نشاط فكري وفني آخر للبشر وثيق الصلة بالظروف التاريخية .
وان القوانين والأساليب والأنماط الإبداعية في أي مجال من مجالات النشاط الفكري الإنساني دائمة التغيّر والتطور .
ولكن إذا كانت مهمة الرواية قد أصبحت أكثر صعوبة وتعقيدا ، فإن ذلك يجب أن لا يقود الروائي الى التخلي عن المحاولات الإبداعية التجريبية .
وليس ثمة طريقة أخرى لاحتفاظ الرواية بمكانتها المتقدمة بين الأجناس الأدبية ، و ازدهارها في العصر الرقمي ، سوى البحث عن أشكال تعبيرية جديدة أكثر قدرة على التوصيل .