مشروع أوروبي مشترك لبناء متحف افتراضي لآثار العراق وسوريا
بيروت " المسلة " … يقول هيرمان بارزينغر، عالم الآثار ورئيس مؤسسة التراث الثقافي في ألمانيا، إن «الخطر لا يتأتى فقط من التدمير الممنهج للآثار الذي يتبع في كل من سوريا والعراق، ولكن أيضا من (عمليات النهب والاتجار) اللتين تمثلان خسارة ثقافية هائلة». وبنتيجة التدمير والنهب معا، «فإن الإطار المهم لإعادة تكوين الحضارات في المنطقة، قد دمر تمامًا».
هل خسرنا تاريخنا المادي، وبمعنى آخر: هل قضي على العناصر الأساسية التي من خلالها كان الأثريون والمؤرخون يعيدون بناء الحضارات القديمة التي تعني الإنسانية جمعاء، أم لا يزال ثمة أمل بالإنقاذ؟
منذ فبراير (شباط) الماضي، بدأ شابان يعملان في موقع «الإرث الثقافي الافتراضي» الذي يحاول جمع تحف العالم على موقع خاص، بموجب مشروع أوروبي مشترك، محاولة بناء متحف للآثار السورية والعراقية التي هي في طريقها إلى الاندثار. وطلب القيمون على الموقع من كل أولئك الذين التقطوا صورًا فوتوغرافية لآثار هذين البلدين، أن يرسلوا صورهم للموقع لإعادة تركيبها من خلال مشاهد ثلاثية الأبعاد، أقرب ما تكون إلى الواقع، وهو ما يتم إنجازه في الوقت الحالي. مواقع إنترنتية عدة معنية بالتراث، أطلقت نداءات، سواء للتبليغ عن آثار تم العثور عيها، أو لجمع الصور، أو لتزويد المعنيين بالمعلومات حول الآثار السورية والعراقية.
لكن كل هذا يبقى قليل الفائدة. ويقرّ الأثريون وكذلك المنظمات الدولية الثقافية، بأنهم في حالة عجز تام، حين تكون لغة السلاح هي السائدة، ولا مكان لغيرها.
وشارك في نحر المواقع الأثرية تنظيم داعش بشكل أساسي، لكن الجميع ساهم في التدمير والسرقة، لأن الطمع لم يبق حكرًا على جهة دون أخرى. لكن يوجد خبر لافت أوردته «صنداي تلغراف» مؤخرًا يقول إن تنظيم داعش أنشأ وزارة مهمتها جني الأرباح من نهب الآثار التي سيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق، وآخرها تدمر التاريخية بوسط سوريا.
ويقدر الاختصاصيون الآثار التي فقدت بملايين الدولارات؛ وإذ يعد البعض أنه من المستحيل تقدير قيمة القطع الأثرية التي سرقت أو حطمت في سوريا، وهي مهد لحضارات إنسانية قديمة، فإن «الجمعية الدولية لتجار التحف الفنية في لندن تقدرها بما يقارب مائتي مليون يورو في عام 2013 وحده».
يذكر أن الإحصاءات تقول إن 4500 موقع أثري، باتت جميعها تحت سيطرة «داعش» في كل من سوريا والعراق. و«داعش» حين لا ينهب أو يحطم، فإنه يترك لبعض العصابات حرية التصرف ويفرض عليها ضريبة الخمس على ما تبيعه أو تستفيد منه، ليمول نفسه بأسهل السبل وأقلها تكلفة.
باتت لائحة الآثار التي فقدت، وربما إلى الأبد، طويلة وموجعة، فمن مدينة نمرود في العراق، إلى متحف الموصل، ورأس أبي تمام، ومرقد النبي يونس.
ودمر مسلحو «داعش» تمثال الموسيقي والملحن العراقي من القرن التاسع عشر عثمان الموصلي، وكذلك تمثالا للشاعر أبي تمام. وفي الموصل، تم نبش قبر الفيلسوف العربي ابن الأثير، ودمرت القبة المقامة فوق ضريحه.
مئات المدافن والكنائس والمقامات في مدن سوريا والعراق، تعد كنزًا أثريًا ثمينًا، منها ما دمر، وغيرها مهددة بالزوال. شواهد القبور في سوريا التي لم ترحمها العصابات المسلحة الهمجية، كانت مادة ثمينة لدراسة أسماء العائلات، وإعادة التعرف على المهن المندثرة التي أعطت أسماءها لبيوتات لا تزال موجودة إلى اليوم. مدينة تدمر وحدها التي تحول مسرحها الروماني البديع إلى مكان للإعدامات الجماعية، مجرد التفكير بإمكانية فقدها، يعد أمرًا مرعبًا، لكل من يقدر قيمة هذا الكنز الإنساني الذي صمد ألفي سنة، وها هو مهدد بمعاول الجهل واللامبالاة.
في تدمر وحدها، وإضافة إلى المسرح الأثري، يوجد السوق التاريخي، والشارع المستقيم المحاط بالأعمدة على مدى عدة كيلومترات، والبوابة الكبرى المعروفة بـ«قوس النصر»، ومعبد بعلشمين، ومدفن زنزبيا، وسبيل حوريات الماء، ووادي القبور، ومجلس الشيوخ، وكنوز كثيرة أخرى يصعب حصرها. فهذه المدينة المفترق التي شكلت نقطة التقاء تجارية وثقافية، هي موضع حضارتين شرقية ورومانية غربية، كما أن فيها آثارا تهم الديانات السماوية الثلاث، واستطاعت أن تقاوم مئات السنين، ومن هنا، الصرخة المدوية التي أطلقت من كل اتجاه مخافة فقدانها.
الإجراءات الدولية والغربية كثيرة، لمحاولة التصدي لمهربي التحف. مجلس الأمن الدولي كان قد طالب الحكومات بالتحرك لمنع تهريب الآثار العراقية والسورية، منبهًا إلى أن هذه المسروقات تشكل مصدرًا مهمًا لتمويل «داعش». كما أن الإنتربول وضع قاعدة بيانات للآثار المنهوبة التي تم إحصاؤها، ووزعت المعلومات على اليونيسكو وكذلك المتاحف والمؤسسة المعنية لوضع فهارس بالمسروقات، لأنها ستظهر عاجلاً أم آجلاً، وسيكون بالإمكان استعادتها. لكن هذا النوع من التدابير كنا قد شهدناه عند الغزو الأميركي للعراق واستشراء الفوضى، ونهب الآثار، ومع ذلك فإن ما تمت استعادته، لا يشكل شيئًا مهمًا بالنسبة لما فقد، ولم يتمكن أحد من العثور على القطع الأهم لغاية الآن. ومعلوم أن هيئات مهمة ومنها متاحف ومؤسسات أثرية، باتت تضرب بمصدر القطعة عرض الحائط، وتشتري ما يعرض عليها بصرف النظر عن مشروعية الشراء. فالطمع كبير، والمحاسبة نادرًا ما تكون على مستوى المخالفات المرتكبة.
ومع أن قضية آثار العراق وسوريا المهددة بالاندثار، تثير غضب المجتمع الدولي شفهيًا على الأقل، مع كثير من العجز، على المستوى العملي، فإن ثمة أصواتًا عربية تستنكر هذا الاهتمام وتعتبر الآثار مجرد حجارة، ونوعًا من الترف غير المقبول ما دامت حياة الناس ترخص إلى حد أن المجازر باتت أمرًا يوميًا. فكيف يكون الحجر أهم من البشر؟ ولماذا تعلو الأصوات المطالبة بإنقاذ الآثار ما دام هدر الحياة البشرية لم يعد يهز الوجدان؟ وهل ثمة من معنى للحديث عن الآثار والتحف في ظل معارك دموية ووحشية لم تبق قيمة للإنسانية. عن هذه الأسئلة التي لا تزال تتكرر على ألسنة العرب ويختلفون حولها، أجاب ثلاثة كتاب من خلال مقال نشر بالإنجليزية على موقع «سليت» وترجم إلى الفرنسية شارك في كتابته كل من ماثيو بوغدانوس، وتيس ديفيس، وأثيل النجيفي، حمل عنوانًا لافتًا وهو: «في الشرق الأوسط.. أنقذوا الآثار كي تنقذوا الإنسان».
وجاء في هذا المقال شرح لضرورة أن «يتم وضع حد لتحطيم (داعش) تراث المنطقة وآثارها، لأن المسألة ليست مجرد معركة سطحية: إن هذا سيكون عونًا كبيرًا للسكان».
وحسب الكتّاب الثلاثة الذين شاركوا في كتابة الموضوع، فإن التاريخ علمنا أنه وخلال الحروب بمجرد أن تبدأ فئة بمحو الهوية التاريخية لشعب ما، فإن هذا يستتبع بمجازر للقضاء الجسدي على أفراد هذا الشعب نفسه. فمحرقة اليهود في ألمانيا سبقتها «مأساة وارسو»، و«حقول القتل» في كمبوديا سبقها تدمير الكنائس والمعابد. وكذلك هي حال «داعش» في المناطق التي يسيطر عليها؛ إذ يجمع التنظيم بين تدمير الأماكن وقتل السكان بطرق وحشية. وبالتالي، فليست صحيحة تلك المفاضلة الدائمة بين البشر والحجر؛ إذ إن الجهة التي تريد الخراب، تسقط الخطوط الحمراء، ولا تعود تميز بين السكان وأماكنهم الأعز على قلوبهم.
الشرق الاوسط