الإمارات .. حضارة كتبت على الصخور وتاريخ دون بجميع الخطوط ..تقرير..
تقرير ل وام – تكتبه شيخة الغاوي
أبوظبي – تعتبر الكتابات والنقوش القديمة من المصادر الرئيسة التي استقى منها المؤرخون والباحثون كل ما دون ويدون عن تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة القديم وحضارتها فهي التي يعتمد عليها بالدرجة الأولى لأنها تمثل وجهة نظر صانع الحدث ذاته.
وتكتسب الكتابات والنقوش القديمة أهمية كبيرة لكونها ثروة حضارية وتاريخية مفيدة مهما كان موضوعها لأنها تسجل حياة أصحابها وطرق معيشة مجتمعهم وعلاقاتهم بجيرانهم.
وعلى الرغم من عدم خلو هذه الكتابات والنقوش القديمة من المبالغات والادعاءات والتخيلات أحيانا والسذاجة والغموض أحيانا أخرى إلا أنها تعتبر المصدر الرئيس لتصوير عادات أصحابها وعقائدهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية وعلاقاتهم الخارجية بالأمم المجاورة لهم.
وتعد قراءة الكتابات والنقوش أفضل طريقة لسبر أغوار وحياة المواقع التاريخية الإماراتية الموجودة في الجزء الشرقي الجنوبي من الجزيرة العربية ..حيث تكشف الخصائص والمقومات المكانية التي أكسبت تلك المواقع عمقا تاريخيا وأهلتها لاحتضان تلك الحضارات الكبيرة وكذلك إيضاح بعض الغموض الذي اعتراها على مدى السنوات الطويلة والإتيان على جوانب من مجتمع المنطقة القديم كالعائلة والمرأة والنشاط الحرفي والاقتصادي والتواصل الحضاري.
ويقول عيسى يوسف مراقب المسح والتنقيبات الأثرية بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة إن الباحث في تاريخ وآثار الإمارات يجد أن هناك ثراء في المواد الأثرية المكتشفة داخل دولة الإمارات والتي أثبتت مدى قدم الإنسان على أرضها وعلاقته الخارجية التي أرست قواعد ثقافة واضحة في كل فترة من الفترات الحضارية .. ولعل أهم هذه المكتشفات التي تدل على ثقافة المنطقة هي الكتابات والنقوش التي اكتشفت على أرض الإمارات كونها تعزز الكثير من المفاهيم والمعتقدات التي سادت في تلك المواقع.
وبخصوص أهم المواقع التي عثر فيها على كتابات ونقوش أثرية..يضيف "في موقع دبا الحصن تم اكتشاف كسرة لجرة ذات طينة برتقالية اللون وهي من أنواع الجرار التي تعرف بجرار" الامفورا "الإغريقية حيث وجد حرف واحد على الكسرة وهو حرف اللام وفي موقع الدور لعل أشهر نقش مكتشف يعود بفترته إلى القرن الأول الميلادي هو نقش من ثمانية أسطر باللغة الآرامية على حوض حجري اكتشف بجانب المعبد وفي وسط النقش تماما اسم إله شمس "شمش" وكانت اللغة الآرامية تستعمل في شرق الجزيرة العربية ابتداء من القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد وكان الإله / شمش / هو المعبود الرئيسي في مدينة الحضر العربية في العراق.
ويوضح يوسف أنه في موقع مويلح عثرت البعثة الاسترالية على كسرة فخارية تحمل ثلاثة أحرف عربية بخط المسند ويؤرخ على أنه أقدم نقش تم العثور عليه إلى الآن في جنوب شرق الجزيرة العربية وأهمية النقش الحقيقية تقع في أنه كان قد كتب على الإناء قبل حرقه وأن هذا الإناء محلي الصنع وهذا يشير إلى أن قسما من السكان المحليين كانوا قد فهموا ذلك الخط والنقش يمكن قراءته على النحو التالي "ل م ب".
ويشير إلى مبخرة تم العثور عليها لها شكل مشابه لقطعة من موقع الدور لكنها مزخرفة بشكل أنثوي وحليات هندسية مدهونة بالأحمر في زخارف شريطية يمكن أن تكون أصولها من الساحل الباكستاني الإيراني لمكران ..كما اكتشفت مقابض جرار "الأمفورا" الإغريقية من رودس حيث عثرت فرقة التنقيب العراقية على اثنتين منهما وتحمل إحداهما اسم الصانع "إياسونس- جيسن" ويمكن إعادة تاريخها إلى أوائل القرن الثاني قبل الميلاد وعلى القطعة الثانية اسم الصانع وشهر الصنع "بانومو انتيغونو" وكذلك طبعة ختم وردة رودس.
ويقول إنه في عام 1986 عثرت البعثة الفرنسية على مقبض جرة روديسية عليها اسم القاضي "ارستونس" مع اسم شهر الصنع "ثيومفوريوس" وثبت أن قاضيا رودسيا اسمه "أرستون" كان يمارس عمله لمدة عام في وقت مابين عامي / 182 "و 176 قبل الميلاد .. ومن المقابض التي عثر عليها فريق الآثار التابع لإدارة الآثار في الشارقة مقبض جرة "أمفورا" عليها رأس "هيليوس" "ربة الشمس".
وردا على سؤال بخصوص كيف يمكن قراءة الاتصالات الخارجية للمواقع من خلال النقوش والكتابات والبضائع التي اكتشفت .. يوضح مراقب المسح والتنقيبات الأثرية بدائرة الثقافة والإعلام أنه لو أخذنا موقع مليحة كمثال فقد يمكننا من خلال هذه المجموعة من مقابض الجرار الإغريقية الاستدلال ومعرفة مدى الاتصال التجاري لمنطقة مليحة مع العالم الخارجي.
ويضيف: "من البضائع والمقتنيات الأخرى التي وجدت في الموقع جرة" أمفورا "مصرية ذات طينة حمراء اللون تعود في فترتها إلى القرن الأول الميلادي وهي معروضة حاليا في متحف الشارقة للآثار ..كما اكتشفت أوعية مزججة تعود بفترتها ما بين القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي وهي مستوردة من بلاد الرافدين "العراق" أو سوريا ..وتم العثور على كسر فخارية من اليونان "الفخار الأتيكي" ووجدت جرار فخارية وكسر فخارية ذات طينة حمراء مصبوغة وعليها نقوش ورسومات مستوردة من الهند أو باكستان وتعود بفترتها مابين القرن الأول الميلادي وحتى القرن الرابع الميلادي بالإضافة إلى أوعية زجاجية و إناء زجاج "الألف وردة" ..
و لعل هذا التنوع في بضائع مليحة أعطى الموقع أهمية في الاتصالات الخارجية التي لابد أن جزءا من هذه المواد قد استوردت عن طريق البحر ..
والمنفذان الوحيدان اللذان يمكن ذكرهما ميناء الدور على ساحل الخليج العربي وميناء دبا على الساحل الشرقي.
وبخصوص الوجود والمد الثقافي الذي يمكن أن تكشفه تلك الخطوط والكتابات..يقول: "تعد مليحة من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية التي أمدتنا بالنقوش الكتابية وتنوعها حيث تم العثور على مجموعة من النقوش الكتابية من الخط المسند التي تعد أهم الكتابات وكذلك على مجموعة من الكتابات الآرامية وعلى الرغم من قلة هذه الكتابات إلا أنها تعتبر نصوصا مهمة في تاريخ المنطقة والتي ذكرت أسماء لأشخاص وأسماء لآله ومناطق.
وفيما يتعلق بأهم نقوش المسند التي عثر عليها..يضيف: "النقوش كثيرة لكن أحدها نقش لشاهد قبر ويعتبر من أهم النقوش المكتشفة في دولة الإمارات وذلك لما يحويه من كتابة لخط المسند الجنوبي ..وهذا الشاهد كان قد كتب على الطوب قبل أن يجف وقد درسه العالم الفرنسي كريستيان غوبان وجاءت قراءة غوبان على النحو التالي: "نفس وقبر عبيدا- بن أوس الذي بنته غ- دانه بنت شمتكتبي- بنت عشق اوس".
ويرى "غوبان" أنه من خلال الكتابة يمكن إعطاء تاريخ للكتابة في الخليج العربي حيث تعود إلى فترتين رئيستين هما فترة قديمة وأخرى حديثة والفترة القديمة تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد والحديثة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد ونص موقع مليحة يمكن أن يؤرخ إلى القرن الثاني قبل الميلاد وقراءة "غوبان" هي بمعناها أن "صاحب القبر اسمه عبيده بن أوس والقبر بنته غدانه بنت شمتكتبي ابنة عشق أوس" ويفسر غوبان اسم غدانه على أنه علم مؤنث.
وردا على سؤال بخصوص قراءته الشخصية للنص يقول يوسف: "قمت بإعادة قراءة شاهد القبر هذا حيث تختلف قراءتي عن قراءة غوبان وقراءتي للنص هي:" نفس / وقبر / عبيدن- بن / أوس / ذي / بنت / غ-دنت / بن تشمتكتبي- سنت /عش./وأربعن ".. وتحليلي لقراءة النص على النحو التالي: السطر الأول: يحوي هذا السطر اسم عبيدن فهو يبدأ ب / نفس وقبر عبيدن / وعادة تستعمل صيغة نفس أو وقبر في النقوش الإحسائية واعتبر علماء الآثار أن كلمة نفس تعني / شاهد / كما في اللغة النبطية والعبرية التلمودية وأحيانا السريانية وأما قبر فهو يعني ضريحا وبذلك يمكن قراءة النقش في السطر الأول على النحو التالي "شاهد وضريح عبيدن".
والسطر الثاني: / بن أوس / وبن تعني ابن و أوس هو الاسم الثاني و أوس من الأسماء الشائعة في النقوش القديمة وهو منتشر في جميع أرجاء شبه الجزيرة العربية واسم ذي وهي تعتبر من الأسماء الموصولة التي تستخدم للاسم المذكر ومعروفة في الأسماء القديمة مثل ذي يزن و ذي الشرى وبنت: لعل هذا الاسم يأتي بمعنى ابنه أو بمعنى فعل بني من البناء ولكن وجود الاسم الموصول ذي قد يبدل لنا الكلمة إلى اسم علم مذكر.
والسطر الثالث: إن نهاية السطر الثاني حوى حرف الغين ونستطيع أن نربطه مع الكلمة الأولى من هذا السطر وهي كلمة / دنت / وبذلك يمكن أن نقرأ الكلمة ب / غدنت / ويمكن أن يقصد به اسم غدانه وقد عرف هذا الاسم كاسم علم مذكر ويمكن أن نجد اسما مشابها له في كتاب "جمهرة النسب" لابن الكلبي وغدانه الذي ذكره ابن الكلبي هو "غدانه بن يربوع بن حنظلة" ويكنى بالأشرس .. ويكمل السطر الثالث كلمتي "بن" وتعني كما ورد سابقا ابن ويبدو أن كلمة "تشمتكتبي" هي كلمة مركبة من اسمين هما "تشمت والآخر كتبي" ولقد ذكر اسم مشابه لتشمت بصيغة "شمت" في النصوص الصفوية كعلم مذكر ونذكر مثالا منه "شمت بن كلص بن حددن بن عون ذال حج" وكتبي هو الإله المعروف في شمال شبه الجزيرة العربية ..
والسطر الرابع: ويمكن قراءة اسم السنة وهي "سنت عش و أربع".
وفيما إذا وجد بالموقع خطوط وكتابات أخرى غير المسند .. يقول: "أمدتنا منطقة مليحة بمجموعة من الوثائق الكتابية المنقوشة بالأحرف الآرامية والتي تبلغ من الأهمية بحيث تبرز مدى التنوع في الخطوط في منطقة واحدة بحيث نرى أن الآرامية استخدمت على العملات في مليحة ونجد هناك ذكر اسم "أبيل" واضحا عليها وكذلك نقشت الآرامية على الأوعية الفخارية والأواني المصنوعة من الحجر الصابوني والصفائح البرونزية ..
ونختار نموذجا واحدا منها وهي الصفيحة البرونزية المعروضة في قاعة العرض في متحف الشارقة للآثار تحوي تسعة أسطر وصنفت على أنها نص جنائزي.
ويضيف: يمكن "قراءتها على النحو التالي:" إن هذا القبر والبهو ذا الكوى-قبر بني في موكي-من قبل وهب اللات وعسى أن يلعن كهل "*" ومناة الشخص الذي يسرقها – النصب التذكاري لأولاده إن حصة-ذريتهم تحدد عن طرق- اتفاق بين الأحياء وخاصة أنفسهم-وأطفالهم ولأعمامهم-ولا توجد هناك وثيقة تحويل للغرباء "خاصة النسباء" .. ومن خلال تحليل مفردات هذا النقش نجد في المقطع الأول وصفا للقبر حيث يبدأ النص "إن هذا القبر والبهو ذا الكوى قبر بني في موكي" وهذا أول دليل على اسم منطقة بني فيها الضريح واسمها موكي.
ويستطرد قائلا: "نجد أن الاسم القريب من موكي ذكر عند الجغرافي كلوديوس بطليميوس والذي انتهى من جغرافيته في وقت ما بعد 141 ميلادية حيث يذكر كلمة" ماكاي "في منطقة داخلية من السكان المحليين الذين يمتهنون صيد السمك وهي منطقة موجودة في شبه جزيرة عمان.
ويضيف يوسف: "المقطع الثاني فهو يدل على مجموعة من الأسماء: اسم علم مذكر وأسماء آلهة والنص هو:" من قبل وهب اللات وعسى أن يلعن كهل "*" ومناة الشخص الذي يسرقها "ويمكن أن نحلل هذا النص أن اسم وهب اللات يوجد مشابه له في المصادر التدمرية فإبن اذينة وزنوبيا سمي وهب اللات "هبة اللات" وقد يدل الاسم على عبادة اللات وهي الآلهة المشتركة بين سكان البلاد العربية الشمالية والعربية الجنوبية .. أما كهل في النص فهو اسم إله يعني القدير حيث يلاحظ أن ظهور عبادة كهل في أواسط الجزيرة العربية جاء بعد أفول نجم ود وأما مناة هي إلهة القدر والنصيب وكان لها منزلة هامة عند العرب وكانوا لا يولونها ظهورهم لعزتها عندهم ونجد فقط في هذا المكان من النقش أنه قد ذكرت ثلاثة أسماء للآلهة فالاسم الأول مركب من اسم علم وأما الباقيان فهما أسماء آلهة قد تكون عبدت في مليحة.
ويقول: "أما باقي النص فهو وصية لتحديد الحصص بين الأبناء والأعمام والتقاسم هنا قد يكون منطقة البهو التي قد تكون منطقة الدفن أو الأضرحة .. ونوه إلى أن الخط الآرامي قد انتشر في مليحة في مناطق عدة وتم تأريخه إلى القرن الأول الميلادي".
وأوضح أنه من خلال المكتشفات الأثرية في مليحة نجد أن الوثائق المكتوبة في مليحة قد كتبت على مواد متنوعة فقد كتبت على الطوب وكذلك على المواد النحاسية والحجرية والفخار ومنها يمكن أن نضع خطا للمعتقدات الدينية من خلال أسماء الآلهة فنجد هناك "ود .. شمس .. كهل .. مناة ..
اللات .. كتبي "وهذا التنوع في العبادة دليل على التنوع الديني في منطقة واحدة حتى لو كانت هناك فروق زمنية غير بعيدة بين بعض المكتشفات.
وأشار إلى أن أسماء الأعلام المذكورة في النصوص هي: "عبيدن .. أوس .. ذي بنت .. تشمتكتبي ..امرؤ الشمس .. وهب اللات" .. وأما بالنسبة لاسم امرؤ الشمس فكلمة امرؤ هي لفظة قد تكون آرامية وتعني الرجل ومنها امرؤ القيس وقد تعني أن سكان المنطقة كانت ألفاظهم فيها شيء من الآرامية ولكن كتبت بالخط المسند وهذا يرجعنا إلى أن الخط الموجود على الآنية البرونزية يمكن أن يكون قد أضيف في منطقة أخرى قد تكون اليمن.
وحول أهمية هذه الوثائق الكتابية..يؤكد مراقب المسح والتنقيبات الأثرية بدائرة الثقافة والإعلام أنها تكمن في كونها قد وثقت اسم منطقة في دولة الإمارات العربية المتحدة وهي منطقة موكي وقد يكون ذلك الاسم هو تحريف لاسم المنطقة التي ذكرت في الكتابات المسمارية وهي ماجان أو ماكان.
ويقول: "يمكننا أن نعتبر مليحة أهم موقع أثري للنقوش في دولة الإمارات العربية المتحدة وعلى الرغم أن هناك بعض النقوش قد تدل على الكتابة الثمودية ولكن تحتاج إلى الكثير من البحث".