Al Masalla-News- Official Tourism Travel Portal News At Middle East

جانبى طويل

شكوى أم نجوى بقلم د. محمد قتحى راشد الحريرى

شكوى أم نجوى

 
 

 

 

 

 

بقلم : د. محمد فنحى راشد الحريرى



قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (198/2):

 عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:

"رحم الله لبيدا إذ يقول:

[ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب]

قالت عائشة: كيف لو أدرك زماننا هذا؟ (تقصد لبيدا رحمه الله ورضي عنه)!

– قال عروة بن الزبير وهو ابن أخت السيدة عائشة: رحم الله عائشة، كيف لو أدركت زماننا هذا؟

– قال الزهري: رحم الله عروة، كيف لو أدرك زماننا هذا؟

– قال الزبيدي: رحم الله الزهري، كيف لو أدرك زماننا هذا؟

قلت: هؤلاء من خير القرون، فكيف لو رأوا زماننا وما فيه من خبث وظلم ونفاق ومفاسد ؟! إذن لتبرؤوا منا وأعلنوا علينا الحرب !!!

 


وكتب إلي أحد الأخوة، من الكتاب الأفاضل قائلا معلقا:

مشاركة للشيخ أبي راشد مع التحية ،،،

 


لي رأي في هذه المسألة قد يكون مغايرا لرأي من يشكو تغير الزمان، وفساد الأجيال بالنسبة لمن قبلها. ويعتبر بيت الشاعر لبيد بن ربيعة أساسا لفهم ذلك، فواضح أنه قال هذا البيت بعد أن تقدمت به السن، وأصبح يشعر بالغربة بسبب موت من كان يعرفهم ويرتبط بهم بذكريات الصبا والشباب، ونشوء أجيال لا صلة بينه وبينها. وهذا ما يسمى بالغربة الشعورية، وصراع الأجيال الذي يصير إليه من تتقدم به السن، فتغلب عليه النظرة التشاؤمية والحنين إلى الماضي، للهروب من سوء ما هو فيه، فينقم على من حوله وما حوله، ولا يعود يرى إلا نصف الكأس الفارغ. (أي الشكوى والتشاؤم والسوداوية)!

 


صحيح أن الزمن يتغير بتغير العوامل الحضارية والمادية، ولكن لكل زمن حسناته وسيئاته. ولست مع نظرية أن القديم خير من الجديد، ولا مع قول عنترة بن شداد

 


هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم

 (أي لم يترك الشعراء معنى إلا وقالوا فيه، ولم يتركوا لمن بعدهم شيئا (1)) بل مع قول أبي تمام (ت 228 ه):

فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت *** حياضك منه في العصور الذواهب

ولكنه صوب العقول إذا انجلت *** سحائب منه أعقبت بسحائب

(أي إن المعاني متجددة لا تفنى، وهي مثل الغيوم التي تحمل المطر، كلما مرت سحابة، جاءت بعدها أخرى)!

 

طبعا مع عدم تجاهلنا لمزية خير القرون التي ذكرت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).

أكتب هذا الكلام وأنا في حال تدعوني أن أقول: سقى الله عهدا مضى ..

ولكن أحاول أن أكون منصفا في نقد هذه الأقوال.

 


وبالطبع شكرا لأستاذنا الكبير الجليل سماحة الشيخ د. منصور الاحمد، على أريحيته وتفاعله الحضاري مع وجهة نظرنا وهي بالأصل وجهة نظر السيدة أم المؤمنين عائشة عليها السلام.

 


ولكن هل كانت السيدة الصديقة تشكو الزمن ؟؟؟

أبدا فالزمن (الدهر) هو الله، وهي أجدر الناس بفهم ذلك عليها السلام، وما عرف التاريخ أفقه منها في الحديث ولا التفسير ولا الفقه ولا الشعر، بل ولا الطب والمداواة في عصرها الميمون. وقد جاء النهي الصريح في السنة المطهرة عن ذم الدهر، والتشكي نوع من الذم وعدم التسليم للقدر خيره وشره من الله.

 


السيدة عائشة عليها السلام كانت في حالة نجوى، فالناس برأيها قل دينهم وتراجع التزامهم بالمنهج، وهو أمر نلمسه في تراجع الذمم وتراجع الوازع الديني والقيمي لدى الناس، بالمقارنة بين السلف الصالح وبين الخلف !!!

 


وهذا ما تداركه أخونا الشيخ منصور الفاضل أمد الله في عمره!

ونحن نعلم أن الإيمان يزيد وينقص عند الفرد الواحد، فمن باب أولى أن يزيد وينقص بين الأفراد، وأن يكونوا طرائق قددا، منهم الصالحون بامتياز ومنهم دون ذلك، بل ودون الدون !!!

 

وفي بيتي أبي تمام الطائي أقول:

إنه كان يخاطب أبا دلف (الممدوح في قصيدته البائية) فيقول:

 لو أن الشعر يفنى لأفناه ما جمعت حياض مجدك وتاريخ أسلافك منذ القدم من أشعار المدح وتعداد المكارم، لكن الشعر ينهمر من العقول كالأمطار، إذا أفرغت سحائب ما فيها جاءت سحائب أخرى، وهكذا لا ينتهي انهمار السحب، مثلما أن أمجادك لا تنتهي ولا تنضب !!

 

ونقول في الحالتين، حالة عنترة (وعصره الجاهلي، وزمنها التشاؤمي / فهو من وفيات 625 م)، وحالة أبي تمام (وعصره العباسي وزمن قصيدته التفاؤلي) على هيئة التعليل والمقارنة، وبين الرجلين والحالتين حوالى ثلاثة القرون:

 


لما انغلق المجتمع الجاهلي على نفسه ظن عنترة بن شداد أن المعاني والأخيلة قد استوعبها الشعراء جميعها، رغم كونه جاهليا ومن أصحاب المعلقات الرائعة، وكثير من الشعر قد قيل بعده، فقال عنترة:

 


هل غادر الشعراء من متردم … إلخ الأبيات! مشيرا إلى ذلك الانغلاق.

 


ولما انفتح المسلمون على العالم، علموا أن المعاني والأخيلة أوسع من أن يستوعبها قول، فعبر أبو تمام عن هذا الوضع التفاؤلي بقصيدته البائية.

 


وأقول متجوزا أن الانغلاق والانفتاح ضدان، وبينهما من الطباق ما بين التفاؤل والتشاؤم، وكل هذا يؤكد أن السيدة عائشة عليها السلام لم تكن تتشكى من دهرها، وإنما كانت تناجي نفسها، وكان حولها من أمهات المؤمنين والصحابيات الجليلات من فقن الكمال كمالا (2) !! !

 

والشكوى، من الجذر الثلاثي (ش ك ا / ش ك و):


ما يشتكى منه، كالتوجع من ألم ونحوه.

وفي الأدب: أحد أغراض الشعر، وعادة ما يشير إلى التألم من جفوة الحبيب وبعده عن المحب، أو من قسوة الدهر، أو أولياء النعمة.


أما النجوى (ن ج و / ن ج و):


فهي السر بين اثنين. وناجيته، وتناجوا، وانتجوا. وهو نجي فلان، والجمع أنجية. قال: يقول: نام القوم وحلموا في نومهم فكأنهم يناجون أهليهم في النوم ونجوته: ناجيته. وانتجيته: اختصصته بمناجاتي. قال الله تعالى: "فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا" سورة يوسف / 80.

 


وقال الفراء: وقد يكون النجي والنجوى اسما ومصدرا.وقال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} سورة المجادلة / 7. وقال الشاعر:

فبت أنجو بها نفسا تكلفني ما لا يهم به الجثامة الورع

 


________________ حاشية:

(1) -البيت من معلقة عنترة بن شداد، وقد أرجع التبريزي سبب نظم المعلقة كما تذكر المصادر القديمة إلى الظروف التي أعقبت حرية عنترة واعتراف أبيه به. قيل إن واحدا من بني عبس شتمه وعيره بأمه وسخر منه لسواد لونه فانبرى عنترة يفتخر ببسالته ويصف فروسيته متحديا خصمه الذي قال له: أنا أعظم شاعرية منك. فإذا صحت هذه الرواية تكون معلقة عنترة أولى قصائده الطوال وأجودها لأنه لا يذكر له قبلها إلا الأبيات المتفرقة والمقاطع القصيرة. وبالتالي فالبيت يمثل التشاؤمية العنترية في قمتها!

(2) – ذكر أبو العلاء المعري في رسالة الغفران المقارنة بين ما قاله عنترة وأبو تمام، فأجرى حوارا بين بطل قصته وعنترة حينما التقاه في الجحيم:

"وإني إذا ذكرت قولك:" هل غادر الشعراء من متردم "لأقول: إنما قيل ذلك وديوان الشعر قليل محفوظ، فأما الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرباب، ولو سمعت ما قيل بعد مبعث النبي لعتبت نفسك على ما قلت، وعلمت أن الأمر كما قال حبيب بن أوس:

فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت *** حياضك منه في العصور الذواهب

ولكنه صوب العقول إذا انجلت *** سحائب منه أعقبت بسحائب

فيقول: وما حبيبكم هذا؟ فيقول: شاعر ظهر في الإسلام، وينشده شيئا من نظمه، فيقول: أما الأصل فعربي، وأما الفرع فنطق به غبي، وليس هذا المذهب على ما تعرف قبائل العرب، فيقول -وهو ضاحك مستبشر: إنما ينكر عليه المستعار، وقد جاءت العارية في أشعار كثير من المتقدمين، إلا أنها لا تجتمع كاجتماعها فيما نظمه حبيب بن أوس الطائي.

 

 

 

 

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله