اعلانات الهيدر – بجانب اللوجو

Al Masalla-News- Official Tourism Travel Portal News At Middle East

جانبى طويل
جانبى طويل

سياحة – بلاهات السياحة الثقافية بقلم : فاروق يوسف

سياحة – بلاهات السياحة الثقافية

 

  بقلم : فاروق يوسف

 

أعجب لمشهد المئات من البشر الذين يقفون في طوابير طويلة منتظرين دورهم للدخول إلى متاحف الفن في مختلف المدن الأوروبية. أقف بينهم فأشعر بالغربة. لا شيء يجمعني بهم. أضحك من حماقتي. إنهم سائحون ومن حق السائح أن يفعل ما يراه مناسبا لتمضية اجازته. ألسنا في زمن الثقافة السياحية؟ ستقفل المتاحف أبوابها لو أنها تخصصت في استقبال ذوي الاختصاص، ممن يتأوهون وهم يقفون أمام الأعمال الفنية. ستمتلئ قاعات المتاحف بالآهات فيما تفرغ خزائنها من المال حتى تشهر إفلاسها. يثير الفزع أكثر، أن المختصين يدخلون إلى المتاحف مجاناً.

في اللوفر، وهو ذاكرة العالم البصرية، ما من شيء يستحق النظر سوى الموناليزا.

في كل مكان ترى سهماً يشير إلى الاتجاه الذي عليك أن تأخذه لتصل إلى رائعة ليوناردو. هناك خرائط يحملها الزبائن تدلّهم إلى ذلك الكنز.

في الطريق إلى ذلك الكنز، يمر السائحون بروائع تختزل مغامرة الخيال البشري عبر العصور، من وادي الرافدين ومصر حتى القرن التاسع عشر، غير أن كل تلك الروائع لا تثير اهتمامهم فلا يلتفتون إليها ولا حتى يتساءلون. هناك نقطة تلمع في مكان ما ينبغي الوصول إليها، هي سبب كل هذا العناء. شيء أشبه بالحج إلى مزار تعمي زيارته الأبصار عما يسبقه وعما يقع من حوله.

سيكون علينا أن نمزج بين شيئين: السياحة الثقافية والثقافة السياحية. شيئان مختلفان غير أن الأبواب صارت مفتوحة بينهما في عصرنا المنهك بشغفه الاستهلاكي. هناك بلدان صارت ضحية للثقافة السياحية. المغرب يتصدر المشهد العربي في هذا المجال. حضرتُ ذات يوم مؤتمراً في طنجة عن التصوف، فإذا بي أفاجأ بحفلة تبدو كما لو أنها من اختراع أحد المستشرقين. ممثلون وأقنعة وجمل قرآنية وأجساد نساء، بما يذكّر بصور الايرانية شيرين نشأت. أيجدر بالإسلام المعتدل أن يكون كذلك؟ شيء من هذا التلفيق كان يحدث ممولاً من مصارف محلية وعالمية.

علينا أن نعترف أن مراكش صارت كلها مدينة للثقافة السياحية. فولكلور أبله وسائحون غارقون في الحشيشة وعاهرات في كل مكان. أما جامع الفنا فلن يكون سوى ذريعة. خلفية تاريخية مزخرفة بالآيات لمشهد يتبدل زبائنه.

ليست الثقافة السياحية مرهونة بالبصر وحده. الحواس كلها تشترك في الفضيحة. هناك بلدان عظيمة بتاريخها وحيوية شعوبها كان قد حُكم عليها بأن تكون مجرد مطابخ. سيقال إن الطعام في بيروت لذيذ دائماً، تنافسها إسطنبول. يقول لك السائح الذي جاء حاملاً مقلاته "في بيروت المواد الأولية أكثر طزاجة واليد أكثر خبرة والفم يبتسم"، وبهذا تكون بيروت مطعماً كبيراً. أغفر للألم مروره الحيي بين أزقة بيروت الجانبية. كان علينا أن ننسى أن سائحاً يمكن أن يقف قريباً منا إذا ما سمحنا لعواطفنا في أن تغصّ بإلهامها المتأني. ولكن، أما كان في إمكان لبنان أن يكون بلدا يستدعي القادمين إليه إلى سياحة ثقافية (جبيل، بعلبك، صور على الأقل) بدلاً من أن يستهلك ذاته المسحوقة في دقيق ثقافة سياحية، مادتها أبخرة الصحون الشعبية؟
وهل المشكلة في لبنان؟

لو كانت المشكلة في لبنان لكان علينا أن نعلّق الجرس في رقبة موناليزا ونعفي متحف اللوفر من تبعات الوهم الاستهلاكي الذي صنعه مستغلاً الفن في محاولته الإيحاء بأن هناك حكاية غامضة لا تزال أسرارها دفينة. ابتسامة المرأة التي رسمها ليوناردو مثلاً. تصوُّرٌ يمكن أن يكون بديلاً من الحقيقة. حقيقة أن اللوحة كانت قد رُسمت في إطار ما كان ممكناً ومتداولاً من تقنيات فنية في عصر النهضة الايطالي. اللوحة في حقيقتها ليست تحفة ولم يكن رسمها ليمثل اختباراً إعجازياً. بل هي عمل عادي شاءت الثقافة السياحية أن تجعله واحدة من أيقوناتها الخالدة.

هناك وزارة للسياحة في العراق، البلد الذي يعدّ وفق المعايير الأمنية العالمية أخطر نقطة في الكون. ما من شيء يدعو للاستغراب أكثر من ذلك. للوزارة مطبوعاتها الترويجية التي تصنع عالماً افتراضياً يمكن اختباره عملياً بطريقة مختلفة. في العراق يمكنك أن تختار طريقة موتك. من خلال انفجار سيارة مفخخة أو من طريق رجل يفجر نفسه بحزام ناسف أو بتأثير قنبلة ألصقت بسيارة تستأجرها ويمكنك أن تُخطَف بسبب اسمك على الهوية ومن ثمّ تُقتل وتُرمى جثتك في مزبلة. العراق هو متحف عالمي للرعب تكتسب السياحة فيه طابعاً ثقافياً، هو مزيج من تداعيات الأصولية البدائية ومعطيات عصر ما بعد الحداثة. دائماً الفكرة هناك تسبق الصورة ويظل الجمال متشنجاً، باعتباره آخر ما يمكن أن يتركه المرء من وصاياه الرثة.
أعود إلى الواقفين في طوابير من أجل الدخول إلى متحف.

في المتحف الوطني بامستردام روائع فنية تعود إلى القرن السابع عشر، وهو العصر الذي عاش فيه رامبرانت. كل رائعة من تلك الروائع يمكن اعتبارها تحفة من حيث مهارة رسّامها التقنية وخياله التصويري. وقائع إعجازية لا يبلغ التصوير الفوتوغرافي عشرها وهي تهبنا معاني عميقة لقيمة التجربة البصرية. غير أن الجموع التي تدخل إلى ذلك المتحف تمشي وهي صريعة فكرة واحدة تحدد لها هدفها مسبقا: أن ترى لوحة "الحارس الليلي" لرامبرانت. هناك حيث وقف حارسان مثل صقرين.

كان رامبرانت رساماً استثنائياً في عصره وكانت لوحته "الحارس الليلي" أحد أعظم أعماله وأكثرها تمثلاً لموهبته. كل هذا صحيح، لكن المتحف يضمّ لوحات لا تقل قيمة عن "الحارس الليلي"، لا أحد من السائحين المخدرين ثقافياً يهمّه أن يلقي عليها، إلا في ما ندر، نظرة عابرة. واقعة ساخرة تذكّرني بمقبرة السلام في مدينة النجف العراقية، وهي كما يقال أكبر مقبرة في العالم.

هناك نوع سياحي يسمّى السياحة الدينية. هذا النوع، لا يتجاوز في حقيقته، في الجزء الأكبر منه، زيارة الأضرحة والمراقد، التي هي قبور، بغضّ النظر عن أهمية الأشخاص الذين يرقدون فيها. وإذا قبلنا من غير جدال بمفهوم الدين السياحي، فإن زوّار القبور سيكونون سائحين من نوع خاص، وبذلك تكون مقبرة السلام أكبر متحف مفتوح في العالم. كما في المتاحف الأخرى، هناك قوة إرشادية تتحكم بمزاج الزوّار السياحي. يأخذ ضريح بعينه، المكانة التي تحتلها موناليزا دافنشي في اللوفر أو حارس رامبرانت في المتحف الوطني. يمشي الذاهبون إلى ذلك القبر من غير أن يقرأوا أسماء الموتى المكتوبة على شواهد القبور التي يمرّون بها. هناك خريطة وهمية تشتعل فيها مصابيح حمراء، تشير أحجامها المختلفة إلى تسلسل أصحاب تلك القبور في الأهمية.

لن يكون مسموحاً لك بأن تخترق التعليمات فتبطئ في خطواتك من أجل أن تقف عند قبر قبل أن تزور القبر الذي هو أكثر أهمية منه. في هذا النوع من السياحة يتدخل مبدأ الثواب. كلما اتبع السائح التعليمات بدقة، كان ثوابه أكبر. لو عقدنا مقارنة بين مشهد الخارجين مسرعين من اللوفر بعد رؤية الموناليزا مباشرة ومشهد المتدافعين للخروج من ضريح الإمام الحسين في كربلاء، لاكتشفنا أن بلاهة السائح تعبّر عن نفسها بطريقتين متناقضتين. في المشهد الأول هناك بشر يضحكون وفي المشهد الثاني هناك بشر يبكون. كلاهما لن يجرؤ على الإفصاح عن أسباب الضحك أو البكاء.

بلاهة يقع ضحيتها كل مَن يسافر ليكون سائحاً نموذجياً.

فهل صُمِّمت السياحة من أجل أن تزيد من حجم شعورنا ببلاهة حواسنا؟

قرأتُ لكاتبة لبنانية أنها فوجئت حين زارت متحف فنسنت فان غوغ في أمستردام بأن الرسام لم يكن عبقرياً كما توقعت وأن أعجابها القديم به إنما كان بتأثير حكاية حياته التي تحولت أسطورة. وهو رأي يمكن النظر إليه باحترام لولا أن الكاتبة اعترفت بأن زيارتها منطقة المتاحف التي يقع فيها متحف فنسنت لم تستغرق سوى ساعتين. كانت المرأة سائحة طارئة إذاً. وكان عليها أن تقف في طابور طويل في انتظار أن تدخل إلى متحف فنسنت. وهذا يعني أنها كانت تركض بين لوحات الرسام الذي صدمت برداءته.

كانت تلك الكاتبة، بطريقة أو بأخرى، قد استسلمت لبلاهة شعورها بضرورة أن تنال ثواباً وهي تزور متحفاً، كان عبارة عن مرقد لرسّام أحبته بسبب حياته المأسوية. لا ضاحكة ولا باكية، خرجت المرأة من المتحف وهي تهزّ يديها. كانت واثقة من أن العالم كان يسخر منها.

نقلا عن النهار
 

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

error: Disabled