طرائف رمضان والجذور (3)
بقلم : د. محمد فتحى راشد الحريرى
نتابع ما بدأناه في هذا الباب، وكنا توقفنا الإثنين الماضي بسبب أمر أهم وهو الحديث عن ليلة القدر، ونعود اليوم لشيء من نهفات رمضان المعظم:
روى البخاري في الصحيح برقم (1916) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار. وفي رواية للبخاري (4510): (إنك لعريض). وفي رواية أخرى له أيضا (4509): (إن وسادك إذا لعريض أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك). وفي أخرى (4510): (إنك لعريض القفا).
وهذا من مداعبات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام.
وقصة عدي رضي الله عنه وقعت بعد نزول قوله تعالى: (من الفجر) أي بعد الحديث الشريف الذي رواه سهل (1).
وقد اعتذر بعض العلماء عن خطأ عدي في هذا الفهم مع نزول قوله تعالى (من الفجر) بأن عديا لم يبلغه حديث سهل، أو لم يكن من لغة قومه استعمال الخيط الأبيض والخيط الأسود للدلالة على الليل والنهار.
ولذلك ترجم ابن حبان في صحيحه لحديث عدي بقوله: "ذكر البيان بأن العرب تتفاوت لغاتها".
ومما يعزى إلى الإمام محمد بن ادريس الشافعي، صاحب المذهب رحمه الله تعالى (ت 205 ه) في هذا المقام:
حدثنا الحسن بن سعيد بن جعفر، حدثنا أبو زرارة الحراني، قال: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: كنت عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة، فقرأها ووقع فيها، فمضى الرجل، وتبعته إلى باب المسجد، فقلت: والله لا تفوتني فتيا الشافعي، فأخذت الرقعة من يده، فوجدت فيها:
سل المفتي المكي هل في تزاور *** وضمة مشتاق الفؤاد جناح؟
فإذا قد وقع الشافعي:
فقلت معاذ الله أن يذهب التقى *** تلاصق أكباد بهن جراح
قال الربيع: فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا، فقلت: يا أبا عبد الله، تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب! فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل هاشمي قد عرس في هذا الشهر يعني: شهر رمضان، وهو حدث السن، فسأل: هل عليه جناح أن يقبل أو يضم من غير وطء؟ فأتيته بهذا، قال الربيع: فتبعت الشاب، فسألته عن حاله، فذكر لي أنه مثل ما قال الشافعي. قال: فما رأيت فراسة أحسن منها.
ويقارب هذا ما يرويه أهل البادية في ديوانياتهم:
واحد أرسل لمؤذن المسجد الذي بجنبهم قبل صلاة الفجر بيتين من شعر النبط يقول فيهما:
يا مؤذن الحارة دخيلك على الهون
بعض الاوادم حاجته ما قضاها
تكفى توخر ربع ساعة وممنون
يمكن نفوس الربع تلحق هواها
رد عليه المؤذن، وكان سريع البديهة بخبث:
الوقت حان ووقفوا لا تباشرون
ومن باشر يالعاصي عليكم قضاها
شهرين يوم بيوم مما تعدون
هذا جزا الناس اللي همها في هواها
_والمباشرة يقصد بها مخالفة أمر الله تعالى: ((ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد …..)) سورة البقرة / 187.
وهكذا قضينا مع القارئ الكريم بعضا من وقت الدعابة والملح، وقدمنا مادة جذورية خفيفة لعلها تؤنسه وتروح عن نفسه، وهكذا كان السلف الصالح أحيانا يبتعدون عن الجد الى حديث الدعابة، ويؤثر عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله، إذا ضاق بهم المجلس بالجد:
هاتوا ملحونا بشيء من حديث العرب، أو أشعارهم وقصصهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
________________ يتبع الهامش:
(1) -حديث سهل: روى البخاري برقم (1917) ومسلم برقم (1091) في صحيحيهما عن سهل بن سعد قال: أنزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ولم ينزل (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: (من الفجر) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.