ليلة القدر والجذور
بقلم : د. محمد فتحى راشد الحريرى
ليلة القدر، هي ليلة الشرف العظيم التي أنزل فيها القرآن الكريم من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ومن بيت العزة نزل منجما على النبي الأعظم خلال ثلاث وعشرين سنة.
والقدر من الجذر الثلاثي (ق د ر):
قدر الشيء: مبلغه. وقدر الله وقدره بمعنى، وهو في الأصل مصدر. وقال اللحياني: القدر الاسم والقدر المصدر، وقال الله تعالى: "وما قدروا الله حق قدره" سورة الزمر / 67، أي ما عظموا الله حق تعظيمه. والقدر والقدر أيضا: ما يقدره الله عز وجل من القضاء. وأنشد الأخفش:
ألا يا لقومي للنوائب والقدر *** وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
ويقال: مالي عليه مقدرة ومقدرة ومقدرة، أي قدرة. ومنه قولهم: المقدرة تذهب الحفيظة. ورجل ذو قدرة، أي ذو يسار. وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا، من التقدير. وفي الحديث: "إذا غم عليكم الهلال فاقدروا له"، أي أتموا عدة الشهر ثلاثين. قال الشاعر:
كلا ثقلينا طامع في غنيمة *** وقد قدر الرحمن ما هو قادر
أي مقدر. وقدرت عليه الثوب قدرا فانقدر، أي جاء على المقدار المناسب.
قال الزبيدي في التاج: وبالقدر بمعنى الحكم فسر قوله تعالى: ((إنا أنزلناه في ليلة القدر)). أي الحكم كما قال تعالى: ((إنا أنزلنه فى ليلة مبركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم)) سورة الدخان / 3 و 4.
قال ابن عباس في الدر المنثور: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر، حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان
وقال: ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل، موت أو حياة أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها من قابل.
وقال مجاهد: "في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة: الحياة والموت يقدر فيها المعايش والمصائب كلها".
واجتهد العلماء والمفسرون في تحديد ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والراجح أنها في العشر الأواخر من رمضان، وفي الفرادى منها، ورجح قوم أن تكون في الليلة السابعة والعشرين، استدلالا عدديا، قالوا:
سورة القدر مؤلفة من ثلاثين كلمة بعدد أيام الشهر، وكلمة (هي) في السورة هي الكلمة السابعة والعشرين، فدل هذا أنها في السابع والعشرين.
قال بعض العلماء، في قوله تعالى:
"إنا أنزلناه في ليلة القدر"
فالكل يعرف أن المقصود إنما هو القرآن الكريم مع أنه لم يصرح به، مما يدل على عظمة القرآن وشهرته وشرفه، حتى صارت ليلة القدر شريفة، ولها مكانة عالية، بسبب نزول القرآن الكريم فيها.
وقوله: -إنا أنزلناه في ليلة القدر، يدل أن القرآن نزل كاملا الى السماء الدنيا،
فصار قريبا منكم في الأرض، تشويقا للناس باقتراب نزوله بالتدريج للأرض ليستعدوا للقائه، كما قال الشاعر:
وأبرح ما يكون الشوق يوما *** إذا اقترب الديار من الديار
وفي ليلة القدر، تقدير الله تعالى للأمور، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، لكنه سبحانه في ليلة القدر يظهر للملائكة المقادير (أي القرارات التنفيذية) لكل ما سيحدث خلال السنة القادمة، فيقومون بتنفيذها.
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"إن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل تلك الليلة من السنة الآتية".
ولكم أن تتخيلوا حجم هذه المقادير لكل ما سيحدث لكل إنسان ولكل مخلوق ولكل الكون خلال سنة كاملة!
وقال الوراق:
سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر على أمة لها قدر، وهنا نعرف قيمة هذا الدين وقيمة نبيه المعظم بين الشرائع!
قال الفخر الرازي: ولعل الله تعالى إنما ذكر كلمة القدر في سورة القدر ثلاث مرات لهذا السبب!
والسؤال: لماذا أخفى الله تعالى أي ليلة هي بالضبط، لماذا عمى علينا تحديها؟
يجيبنا على السؤال الفخر الرازي فيقول:
أخفى الله تعالى أمورا كثيرة لهدف واضح:
أخفى الطاعات ليرغبوا فيها كلها، وأخفى المعاصي ليحترزوا منها كلها وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى وقت الموت ليخاف الإنسان فيستعد، وأخفى أي ليلة في رمضان ليلة القدر ليعظموا جميع ليالي رمضان.
هذا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم.