حسني مبارك… الرجل البسيط المهموم بمصر وأهلها …
بقلم الكاتب الكويتى احمد الجارالله
سألته في أول لقاء بعد توليه الرئاسة: لماذا لم تمت في حادثة المنصة? فضحك وأجاب: تلك إرادة الله
نقل مصر من دولة محطمة تعاني من إرث أيديولوجية عبدالناصر
إلى دولة موثوق بها عالمياً
ما يتعرض له مبارك اليوم
من اتهامات هو نفسه ما سيق ضد الملك فاروق لكن الأيام أثبتت زيفها
كان يقول دائماً: كل أملي أن لا يتمكن "الإخوان" من حكم مصر لأنه يدرك إلى أين سيأخذونها
أليس الساكت عن الحق شيطانا أخرس? وهل السكوت عن حقيقة شخصية ساهمت في صناعة تاريخ مصر الحديث يخدم المحروسة وشعبها وينصف رجالاتها?
لقد نجح خصوم الرئيس المصري حسني مبارك في تلفيق التهم ضده وفي تسويقها بين العامة وإقناع شريحة عريضة بها, ما جعله يترك منصبه ويقبل الخضوع للمحاكمات وحجز حريته, لانه مؤمن بان مصر لن تظلم أولادها الأبرياء الذين كرسوا حياتهم لها ولخدمة شعبها ورفعته.
هذا هو حسني مبارك الرئيس الذي رفض مغادرة بلاده, قائلا: "ولدت على ارض مصر وحاربت من اجلها وعشت حياتي فيها وسأموت وأدفن في ترابها" وقرن قوله بالفعل, فرفض مغادرتها عندما تنحى رغم ان المملكة العربية السعودية والامارات وكل دول "مجلس التعاون" فتحت ابوابها له.
هذا هو الرئيس حسني مبارك الذي تعرفت اليه عندما كان نائبا للرئيس المغدور انور السادات, يومذاك وبعد القمة العربية التي عقدت في بغداد في نوفمبر العام 1978 واتخذ فيها قرار مقاطعة مصر بعد توقيع الرئيس السادات معاهدة "كامب ديفيد", تقدمت اليه قائلا اني احمل رسالة شفوية من الملك فهد بن عبدالعزيز, رحمه الله, وكان يومذاك مازال وليا للعهد.
استقبلني حسني مبارك واحضر آلة لتسجيل الرسالة, فقلت له: "ان الرسالة الى الرئيس وليست لكم", فاتصل بالسادات الذي طلب مقابلتي فورا, وافضيت له بفحوى الرسالة التي سرعان ما فعلت فعلها في العلاقات بين مصر وعدد من الزعامات العربية.
في تلك المرحلة كانت وسائل الاعلام العربية موجهة وشبه رسمية, ولاسيما في الدول "الثورية" التي اغتصبت الحكم فيها مجموعات وسرقته من اهله, ولذلك كانت حفلات التخوين والردح ضد مخالفي سياسات تلك الدول رائجة جدا, وطبعا نالت مصر ورئيسها النصيب الوافر من حفلات التخوين تلك إثر زيارة انور السادات القدس في العام .1977
من تلك الرسالة بدأت معرفتي وعلاقتي مع الرئيس حسني مبارك فك الله قيده, وبعد اغتيال شياطين المؤامرات للسادات في السادس من اكتوبر العام ,1981 تولى نائب رئيس الجمهورية الحكم, واذكر جيدا كيف ان هؤلاء الشياطين أشاعوا ان مبارك هو من رتب عملية اغتيال السادات, ونسجوا حولها الروايات ووضعوا تفاصيل خيالية.
التقيت مبارك بعدما اصبح رئيسا وكان السؤال الأول الذي طرحته عليه: لماذا لم تمت في تلك الحادثة ياسيادة الرئيس? ضحك طويلا لانه, ولاشك, عرف القصد من سؤالي فقال بما معناه: هل انت منهم, من عصابات إطلاق الشائعات والتهم الجاهزة? وأردف: "تلك ارادة الله".
تسلم قائد القوات الجوية السابق رئاسة الجمهورية ومصر لا تزال ترزح تحت وطأة التركة الثقيلة التي خلفها نظام جمال عبدالناصر. دولة ضعيفة محطمة خربة, لكنه استطاع خلال فترة وجيزة ان يشحذ ارادة شعبها ويرفع معنوياته بعدما كانت ايديولوجيات ثورة عبدالناصر قد اضعفته ورمته في أتون الشعور بالمرارة واليأس بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها مصر, رغم ان شعبها من أفضل أجناد الارض.
تلك الثورة التي أدت في العام 1952 الى رحيل الملك فاروق مثقلا بجبال من تهم زائفة فبركتها اجندة حاذقة نفذها مغامرون لا علاقة لهم بادارة الدولة, ولا يمتلكون خبرة في توجيه مسار الحكم في ظل احتكاك غشيم وغبي مع دوائر القرار في العالم, وهذا ما ادى بهم الى خوض غمار حرب العام 1956 التي كانت ردا على تأميم قناة السويس, علما بأن القناة كانت ستعود الى كنف السيادة المصرية بعد نحو عشر سنوات من ذلك التاريخ وكانت هذه الحرب القشة التي قصمت ظهر البعير, حيث, وكعادة الانظمة الثورية العربية, تحولت الهزيمة نصرا,
وهو لا شك انتصار كاذب خصوصا انها خلفت دمارا كبيراً لمصر. ولم تمض سنوات حتى كانت المغامرة الثانية في يونيو العام 1967 التي زادت تخريب مصر, وقتل فيها الآلاف من الجنود المصريين وتحولت ايضا الهزيمة واحتلال سيناء وقناة السويس إلى "نكسة" ودخلت مصر لسنوات أخرى في دهليز الاستنزاف والشعارات والخطب الحماسية, الى أن جاءت حرب العام 1973 لتقلب الموازين وتغير الايديولوجية التي رسخها في الاذهان نظام جمال عبدالناصر.
على كل حال لسنا في معرض الغوص في تركة نظام عبدالناصر, ولن نتحدث اليوم عن الرئيس المغدور انور السادات الذي سنفرد له مساحة خاصة لاحقا, فنحن هنا نروي بعض فصول قصة الرئيس حسني مبارك, الذي توطدت علاقتي به اكثر بعد توليه رئاسة الجمهورية وبعد الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته مصر حينذاك. صحيح ان القرارات كان قد اتخذها الرئيس الراحل انور السادات لكن مبارك هو الذي نفذها, حيث ازداد في عهده الاستثمار العربي والاجنبي.
وفي تطبيق اي قرار تحدث بعض الاخطاء, ولهذا كانت هناك شكاوى من قبل المستثمرين, فكنت اذهب إليه وانقل شكواهم, فيبادر فورا الى التحقيق فيها ويعالجها, وخصوصا عندما يرى احقيتها.
حسني مبارك لم يكن منتفعا وهو لم يطلب في يوم من الايام حصة من هذا الاستثمار, بل كان يحض المستثمرين على الاستثمار في المحروسة ويسوق بلاده وكأنه مدير علاقات عامة من الطراز الرفيع تحيط به هيبة منصبه, يتنقل بين دول "مجلس التعاون" ليشجع على الاستثمار في مصر, ويطلب المزيد لها.
اذكر انه قبل إقدام صدام حسين على غزو الكويت ارسل 50 مليون دولار الى الرئيس مبارك, فاتصل به وسأله عن سبب ارسال هذا المبلغ فقال صدام: "هذا مبلغ بسيط واعذرنا اذا كنا قصرنا في تقديرك", اجاب مبارك: "انتم في العراق بحاجة لهذا المبلغ ونحن في مصر شايلنكم للعوزة الكبيرة". وأمر بأن يودع المبلغ في حساب الدولة بالبنك المركزي المصري وليس في حسابه الخاص. كذلك اذكر أن أحد شيوخ الخليج كان خصص راتبا شهريا لمبارك, وهو مبلغ مهم جدا, لكن هذا المبلغ كان يودع في البنك المركزي المصري لحساب الشعب.
حين نقول ان مبارك لم يكن منتفعا فإننا نعزز ذلك بالشواهد, لان الرجل كرس كل وقته لرعاية شعبه وفتح ابواب الاستثمار امام الجميع, واستطاع, رغم التحديات, ان يعزز ثقة المستثمر المحلي والاجنبي بمصر, هذه الثقة التي فقدت إبان عهد عبدالناصر, بعد ان كان الملك فاروق تعب هو الاخر في بنائها عند المستثمرين, لكنها هدمت بعد ان عُزل الملك, وبدأت المغامرات الثورية. من المتعارف عليه في عالم الاقتصاد ان الدولة التي تفقد حكمها الشرعي التقليدي تخسر ثقة العالم بها وتحتاج لسنوات طويلة لاعادة بنائها, فكيف اذا كانت هذه الدولة قد دخلت مرحلة من الركود جراء الثورة الهوجاء التي اختارت الصدام مع كل العالم, وحولت دولة مثل مصر الى معسكر مقفل, وقادتها يطلقون الشعارات التي يتخيل من يسمعها ان الحرب ستقع الان? يومذاك اجتاحت تلك الحمى الثورية العالم العربي وعبث فيه من عبث انقيادا لشعارات الناصرية التي لم تجلب عليه وعلى مصر الا الخراب.
كنت على اتصال دائم بالرئيس مبارك حتى اثناء ازمته, وفي لقاءاتي معه, ولاسيما بعد اي ازمة سياسية كان يقول دائما: "كل املي ان لا يتمكن "الاخوان" من حكم مصر", لانه يدرك الى اين سيأخذون ارض الكنانة.
ليس لدى الرجل ما يخفيه لهذا لم يكن خائفا من المستقبل.
اولئك الذين سرقوا الحكم منه, راحوا يشيعون بين الناس وفي العالم انه يملك 70 مليار دولار ونسجوا القصص والحكايات عن فساده, واكثروا من تعظيم الوصف حتى يبرروا لانفسهم الانقضاض على مصر, ورغم كل ما اشيع عنه رفض مبارك ان يترك بلاده لانه كان دائما يقول: "جيوبي خالية وثوبي ابيض وعلاج الفساد ليس بهدم المعبد على من فيه, ليس بهدم مصر".
اولئك رفعوا رايات حق ارادوا بها باطلا, وها هي الحقائق والشواهد تترى, فالفوضى تعم مصر والفساد تضاعف الى حد مخيف والدولة تضعف يوما بعد يوم, ألم يكن من الأفضل لتوفير كل ذلك انتقال السلطة سلمياً, انتقالاً دستورياً, يختار فيه الشعب المصري من يراه الافضل لحكم بلاده? لكن قوى الشر من خارج مصر ومن داخلها تريد ان تدمر هذه القوة الاجتماعية والسياسية والعسكرية, وأولاً واخيراً الاقتصادية. القوة التي بدأ نورها يشع, ارادت قوى الشر تلك ان تمسك هي بزمام الامور لتحاول الاستفادة من هذه الدولة الكبيرة, او بالاحرى لتحتكرها وتوظفها في خدمة أهدافها.
يومذاك اطنبوا بالحديث عن فساد وأموال وثروات طائلة مكدسة هنا وهناك, واليوم بعد مرور ثلاث سنوات على امساكهم بالسلطة لم يجدوا أي ثروات مودعة في البنوك, لا في سويسرا ولا غيرها, وبعد البحث والتحقيق قال لهم السويسريون كل ما لدينا 400 مليون فرنك هي كل ودائع أبناء مصر ورجال أعمالها وليست لحسني مبارك.. نعم, مصر يا ريس تدفع اليوم ثمن التكفير عن ذنبها بعد الاساءة لك.. يقولون ان الدنيا دار جزاء فهل مصر تدفع الآن الجزاء? وما من ظالم الا سيبلى بالظلم, انها الدنيا يوم لك ويوم عليك.
هل تستأهل مصر ما يجري فيها,ألم يكن من الافضل كما ذكرنا ان تنتقل السلطة دستورياً وسلمياً, وبعدها تجري محاسبة الفاسدين بدلا من سرقة السلطة وتقويض الدولة وتعطيل الاقتصاد, ونقض الاتفاقات الدولية, كما هي الحال اليوم?
فهل تحقق مصر ما يطمح اليه شعبها من رغد عيش وازدهار عبر قرارات الانتقام والتشفي وفقدان ثقة العالم بها, جراء ممارسات لصوص السلطة?
لقد غرر هؤلاء بالناس, غرروا بشعب مصر العظيم, وغسلوا ادمغة الناس بالاباطيل والتهم المعلبة وكانوا يشيعون ان كل هذا الفساد والخراب المزعوم سينتهي حين يتسلمون السلطة, لكن ما حدث كان العكس, فالفساد ازداد ومعه كثر الفاسدون, بل عادت مصر الى اجواء الحكايات التي روجها عبدالناصر- رحمه الله – والايديولوجية التي رسخها عن الملك فاروق وحاشيته.
ما أشبه اليوم بالبارحة, فها هي سرقة حكم مصر تتكرر, وها نحن نسمع حاليا حكايات وحكايات عن حياة الرئيس حسني مبارك… وعن اصله ونسله وذويه وحاشيته, حكايات كتلك التي روجت عن الملك فاروق الذي قيل عنه انه استقل يخت المحروسة بعد ان شحن فيه صناديق الذهب والخمر, بل قالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر, لكن الشعب المصري اكتشف لاحقا زيف تلك الحكايات.
وعرفوا ان اليخت لم يكن فيه من طعام الا ما يكفي لثلاثة ايام… ومثلما اكتشفوا ان فاروق لم يكن ذلك الغول الذي صوروه لهم, سيكتشفون ايضا ان مبارك ليس ذلك الرجل الذي نسجت حوله كل هذه الحكايات التي تروى حاليا.
اخيرا اقول إن ما تمتع به الرئيس مبارك في قصر الرئاسة هو فنجان القهوة, فمعدته لا تتسع لمئة "فرخة" ولا لعشرين خروفا, انه رجل بسيط وكل ما حوله بسيط, همه كان ولا يزال مصر واهلها وهذا ما سيكتشفه المصريون وسيكتشفون زيف ما نسجه سراق السلطة عنه وحاكوه حوله.
حسبنا الله ونعم الوكيل