جمع المقتنيات الأثرية هواية تكلف الملايين ويتمسك بها الإماراتيون
أبوظبي " المسلة " … قليل هم الذين لا يزالون يتمسكون بتراث الآباء والأجداد من خلال احتفاظهم بمجموعات كبيرة من المقتنيات الأثرية التي يعتقدون أنها تذكرهم بالماضي التليد الذي ذهب من غير رجعة متألمين لذهابه رغم التقدم التكنولوجي والعمراني والحضاري والثقافي الذي تعيشه الإمارات والذي ينعم به أبناء هذا العهد.
هواية جمع المقتنيات الأثرية وعرضها لاقت في السنوات الأخيرة رواجا كبيرا في الإمارات بحكم ما يمثله التراث الإماراتي من ثقافة حضارية للأجيال القادمة وحرص أبناء الإمارات المخلصون على حفظ تراثها وتوثيقه في منازلهم مما أدى إلى انتشار القرى التراثية والمتاحف الخاصة في مناطق مختلفة من الدولة عرضوا من خلالها المقتنيات الأثرية التي جمعوها أو ورثوها عن الأجداد بهدف الحفاظ عليها كتاريخ توثيقي للزمان والمكان.
ولعل المواطن مطر محمد المسافري خير دليل على ذلك لاسيما بعد أن أحال منزله قرية تراثية شعبية تضم كما كبيرا من المقتنيات الأثرية والتراثية التي دعمها بالصور والخرائط والكتب والوثائق التاريخية معطيا بذلك دلالة واضحة على ما تعنيه هذه المقتنيات من معاني وأصالة. جذبه التراث فحول منزله في منطقة سهيلة بإمارة رأس الخيمة إلى قرية تراثية متكاملة جمع فيها كل ما تقع عليه يده من تحف قديمة وكل ما تعشقه عينه من أثريات.
يقول " أسست أول قرية تراثية متكاملة عام 2005 وأهديتها لصاحب السمو الشيخ سعود بن صقر القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم رأس الخيمة ولأن حب التراث هو الهواء الذي استنشقه ولا استطيع الاستغناء عنه لذا قررت إنشاء قرية تراثية ثانية في منزلي عام 2009 وما زلت أتابعها وأديرها حتى اليوم" .
وذكر أن هوايته هذه تعود بالدرجة الأولى إلى حبه لامتلاك السيوف والبنادق القديمة منذ طفولته إذ كان يذهب إلى المحلات التجارية التي تبيع السيوف والأسلحة التقليدية ويقف أمامها متأملا بالساعات غير مبالي بحرارة الشمس الحارقة فكبر وكبرت معه هذه الأماني كما تعلق منذ الصغر بصور المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان " طيب الله ثراه " مع القادة والزعماء فحرص عندما كبر على جمعها والاحتفاظ بها . ولفت إلى أن هوايته هذه تعود بالدرجة الأولى إلى حسرته على الماضي القديم الذي لن يعود ولما في هذا العصر والزمان من حياة مغايرة لحياة السابقين الذين يعتز بهم وبحياتهم وبكرمهم وشهامتهم.
ويضيف المسافري " أن هذه الهواية بدأت لدي في مرحلة الطفولة ووجدت نفسي أهتم بالأمور التراثية ولا اعرف من أين نبع عندي هذا الاهتمام ربما كان للتطور الذي حدث في البلاد دور في هذا الاهتمام والشغف بما هو قديم خصوصا عندما طغت حالة التجديد وسرت حمى الحداثة في البلاد إضافة إلى الحنين للماضي الذي يشكل جانبا كبيرا من الحميمية في نفسي جعلني احرص على الاحتفاظ بكل ما له صلة به وكنت مولعا بالمقتنيات الأثرية ومع مرور الوقت أصبحت لدي رغبة جامحة في الاقتناء بشكل موسع والبحث عن الأشياء التي ارغب في اقتنائها وبدأت بالبحث عن التجار والتعاون مع الأخوة المهتمين بالتراث الشعبي هكذا كانت البداية عندما أصبت بهوس جمع القديم واقتنائه " .
يذكر أن عملية البحث ومحاولة الاقتناء لبعض القطع النادرة تكلف الكثير من الجهد والمال والعناء من أجل الوصول إلى تجار الآثار حتى يتم الحصول عليها . ويقول " اهتمامي الشخصي يتركز في اقتنائي للأشياء التاريخية والصور التي ترجع إلى شخصيات معروفة ومنها ما يخص الرؤساء والملوك والأمراء وبعض الحكام على مستوى الجزيرة العربية وقدر قيمة القطع الأثرية الموجودة لديه مليونين وخمسمائة ألف درهم " .
وتضم قرية المواطن المسافري كما كبيرا من المقتنيات الأثرية والعملات القديمة والفخاريات العجيبة والقديمة بل والأزلية التي عجز حسب قوله تراثيين زاروا منزله واطلعوا على ما به من مقتنيات من تحديد أعمارها لكونه قد جمعها منذ القدم وتمسك بها .. منوها إلى أن أقدم عملة لديه هي درهم بويهي مكتوب عليه " ركن الدولة أبوعلي في خلافة الخليفة المطيع لله ضرب عبدالله المحمدية عام 347 هجرية " .
ويضيف " المدخن هو وعاء يوضع به البخور وأحيانا يكون مصنوع من الفخار أو الحديد أو النحاس ولدي مدخنه مصنوعه من جريد النخيل " . وشيد المسافري بالقرية بيت الشعر ووضع به جلسة قديمة من الخشب وعرض بها المناديس القديمة وأنشاء طوي " بئر ماء " من الأحجار والصخور القديمة التي أضفت على المنزل رونقا أثريا رائعا مما جعل المنظر العام يعود سنوات طويلة إلى الوراء وزودها بالدلو لاستخراج الماء من البئر والرشا وهو حبل سميك يربط بالدلو من الأعلى .
واعتاد عند زيارة الضيوف له أن يقدم لهم أكلات شعبية قديمة انقرضت الآن سوى عند الأقلية القليلة كالمسافري الذي عرف بكرمه وشهامته وهي ما تسمى بـ " البلاليط وخبز الرقاق والخبيص والهريس والقرص" يقدمها للضيوف بعد دخولهم إلى المنزل مباشرة معطية بذلك دلالة واضحة على كرم الضيف ومحبة الضيوف .
كما ازدان مدخل قرية المسافري بالمباخر القديمة وضم كما كبيرا من المقتنيات الأثرية القديمة التي غالبا ما تستخدم في كرم الضيوف لعل من أبرزها الخروس والدلال الملونة القديمة والحديثة والمحاميس والبنادق والسيوف وغيرها كثير موضحا أن الدلال التي بحوزته متنوعة ومتفاوتة الأحجام والأعمار مبينا أهمية الدلة لصاحب المنزل حيث تعكس كرمه وحسن ضيافته خاصة عند أبرازها أمام الزوار لاسيما في هذا الوقت الذي أصبحت فيه الدلة البلاستيكية الملونة تشكل مكانة كبيرة لدى الجميع .
يواصل المسافري الحديث وهو يرتشف القهوة معرجا على الطير حيث قال ان الطير نال نصيبا كبيرا من الاهتمام لدى مواطني الدولة لأنه بحد ذاته رمزا كبيرا يعرفه العرب خاصة عندما يراه الزائر في المنزل وكثير من أهل البادية يهوون الصيد بالصقور .. مبينا ان لديه في القرية التراثية عددا من الطيور المحنطة للحر والشاهين والكروان ولحيوان النمس وأنواع مختلفة من الأسماك .
كما أن منزل المسافري يضم أنواعا أخرى من الآثار القديمة كالرحى والبنادق والفرش والأواني النحاسية والأجهزة الكهربائية والميكانيكية القديمة كالراديو والكاميرات والقدور والدلال والمطاحن والسرج والفناره والأباريق.. مشيرا إلى أن أبناءه يتواجدون معه بشكل دائم ويحبون الأشياء القديمة والتعرف عليها ومعرفة تاريخها وطالب المسافري المسئولين والجهات المختصة ان تساعدهم على تنمية الاهتمام بكل ما هو قديم . ويؤكد الابن سلطان مطر المسافري " 16 عاما طالب في معهد رأس الخيمة للعلوم والتكنولوجيا " أنه يحب ويعشق التراث منذ الطفولة لقربه من والده .
ويقول " شاركت الوالد في إنشاء القرية التراثية الثانية في منزلنا وتشربت منه حب التراث وشاركت في نادي ضباط الشرطة التابع لشرطة رأس الخيمة خلال السنوات من 2008 إلى 2011 كنت خلالها مسؤولا عن قسم التراث استقبل الزوار وأشرح لهم عن الآثار وأبث أشرطة فيديو تحكي قصة الآباء والأجداد وكل ما له صلة بتراثنا من عادات وتقاليد وحرف " .
ويضيف " لي مشاركة مستمرة في مهرجان عوافي منذ عام 2007 حتى آخر موسم كذلك شاركت في معسكر القوات المسلحة في سيح اللبانة العام الماضي عن طريق عرض أشرطة تراثية عن العروض العسكرية أيام حكم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان " طيب الله ثراه " وكيف تطورت منذ بداية الإتحاد وأقوم بتوثيق التراث الشفهي عن كبار السن واحتفظ به في القرية للشرح والتوضيح والتوثيق " .
من جانبها تقول فاطمة احمد عبيد المغني خبيرة وباحثة في التراث الإماراتي لديها متحف بخورفكان من أكبر متاحف التراث الخاصة على مستوى الدولة .. " تعلقي بالمقتنيات التراثية نابع من نهج دولتي التي تحتفي بالتراث وتسخر كل الجهود في سبيل المحافظة عليه والعمل على نشره بين صفوف الأجيال الجديدة " . وتضيف " تربطني علاقة قوية بالمقتنيات التراثية والتاريخية ولا أفرق بين قطعة وأخرى مهما اختلف سعرها فجميع القطع غالية على قلبي ولولا ذلك لما سعيت إلى اقتنائها والاحتفاظ بها لذلك لا يمكن أن أفرط فيها أو أقوم ببيعها مهما ارتفع سعرها " .
وحول أشهر وأهم المحطات التي قادتها لإنشاء متحف .. تقول " كانت البداية مع جمع مقتنيات الأسرة وأول قطعة حصلت عليها هدية من جدي عام 1970 عبارة عن بندقية قديمة من نوع " كند " احتفظت بها كتذكار وفي عام 1978 عندما تزوجت كان لدى أهل زوجي سرير نوم قديم جدا مصنوع من خشب الزان يسمى قديما " بورمان " لا يخلو منه منزل في ذلك الوقت يريدون التخلص منه ولكني شعرت ان هذا السرير جزء من تراثنا ورفضت ان يرمى في مكب النفايات واحتفظت به بجانب بندقية جدي.
وتضيف المغني " من هنا بدأت أفكر في جمع القطع التراثية القديمة ومع مرور الوقت عرف الناس هوايتي في جمع القطع الأثرية القديمة وبدأوا يهدوني كل ما لديهم من أشياء قديمة لا يحتاجون لها ومن هذه المواقف أذكر انه في يوم من الأيام عام 1993 وأثناء دوامي الرسمي كمديرة لمركز التنمية الاجتماعية بخورفكان فوجئت برجل مسن حضر مع بعض معارفه يسألون عني وكنت أتصور أنه جاء بخصوص مساعدة اجتماعية لكني فوجئت به يهديني بشت " عباءة " يحتفظ به من زمن قديم وغالي لديه وأرادني ان احتفظ به معللا ذلك أن أبناءه لن يقدروا قيمته ومن ذلك الوقت وأنا احتفظ به وأشعر أنه أمانة لدي لأن تاريخه يعود إلى 150 عاما .
وتتابع " من أغرب الهدايا التي تلقيتها كانت من زوجي وهي عبارة عن بقايا عمود فقري لحوت تزن 5 كيلوجرام نفق عام 1965 على شاطئ قدفع بإمارة الفجيرة أحضره من عند زميل له محتفظ به منذ ذلك الحين". وتواصل " أهداني جديد الشحي بندقيتين وأصبحت الهدايا تأتيني باستمرار من الأهل والمعارف والأصدقاء وسافرت إلى اليمن وقطر وجزيرة سوقطرة والهند خصيصا أجمع القطع والمقتنيات الأثرية .. مشيرة إلى ان المتحف لديها يضم ركنا للصور القديمة وقسما للحياة البحرية القديمة وقسما للأندية الرياضية ".
وتقول " حاولت بقدر الإمكان التنويع في المقتنيات فشملت الأسلحة القديمة مثل البنادق والسيوف والخناجر وقمت بتخصيص ركن لها كذلك الأزياء الشعبية التي اندثرت واختفت جمعتها في ركن خاص بالأزياء أما ركن أدوات المطبخ فيشمل أنواعا كثيرة من القدور والدلال والفخاريات .. مؤكدة ان تكلفة متحفها لا تقل عن مليوني درهم ".
واختتمت المغني بالقول " أمنيتي المحافظة على هذا الإرث العريق خاصة وأن هدفي ليس المادة بقدر ما هي هواية في جمع واقتناء هذه المكنونات التاريخية والتراثية العريقة التي خلفها الآباء والأجداد في هذه الأرض الطيبة لتبقى يتذكرها جيل بعد جيل " . بدوره الشاب سلطان العسم من عشاق فريج المريجة بالشارقة حيث تربى فيه ونشأ على حب التراث وكان قريبا من والده رحمه الله إذ يرافقه يوميا منذ كان عمره 7 سنوات عندما يذهب عصرا للجلوس مع كبار السن.
يقول " بعد وفاة والدي حرصت على مرافقة عمي عندما يذهب لمنطقة المريجة التراثية حيث نجد تجمعات كبار السن وننهل من كنوزهم التراثية " . رغم أن أغلب العملات التي جمعها العسم من العملات النادرة التي تعود إلى عصور قديمة إلا أن أنفس وأندر قطعة من بينها هي عملة عثمانية عليها صورة السلطان العثماني محمود الأول عام 1730 ميلادي وهو أحد سلاطنة الدولة العثمانية " . ويضيف " أتعاون مع إدارة التراث في الشارقة خاصة أيام المهرجانات إذ يرجعون لي للسؤال عن بعض المفردات التراثية وأقوم بشرحها وتوثيقها لهم " .
المصدر : وام