أنهى معاناة الحجاج مع الظمأ ولهيب الشمس
«درب زبيدة».. قَسَم مبرور يزرع إكسير الحياة في الصحاري القاحلة
المدينة المنورة "ادارة التحرير" …. يعد "درب زبيدة" من أهم طرق الحج والتجارة خلال العصر الإسلامي، وقد اشتهر بالاسم المنسوب إلى السيدة زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد، التي أسهمت في عمارته فكان أن خلّد ذكرها على مرّ العصور.
قَسَمٌ مبرورلم تكن زبيدة زوج الخليفة العباسي هارون الرشيد عندما توجهت لأداء شعيرة الحج إلى البيت الحرام عام 184هـ (800م)، تتوقّع أن تجد ألوانًا كبيرة من المشقة والعناء، ولم يدر بخلدها – وهي الأميرة وزوجة الخليفة – حجم المكابدة والعناء الذي يواجهه الحاج في رحلة الحج من العراق إلى مكة، حتى أدركت ذلك في رحلتها بعد أن رأت أن من هؤلاء الحجّاج من يموتون عطشًا ويهلكون في المفازة، وعندما عادت إلى بغداد استحالت صور المعاناة هاجسًا يسكنها ويقض مضجعها، وألمًا يوجع قلبها الذي مزقته صور حية مؤلمة لبقايا جثث الحجاج الذين فارقوا الحياة نتيجة الظمأ ولهيب الشمس الحارقة، فضلاً عمّا أصابها من وعثاء ونصَب وإرهاق وضعف بسبب قلة الماء وكآبة المنظر وطول الطريق.
فعزمت من لحظتها تلك على وضع حد لمعاناة حجّاج بيت الله الحرام في كل موسم.. وأعقبت القرار بقسَمٍ غليظ لن ينساه التاريخ: "أقسم بالله العظيم أن أعمل على ألا يموت حاج من العطش بعد اليوم". وأسندت زبيدة إلى ذوي الاختصاص وأهل الخبرة أمر إنشاء هذا الطريق الذي أصبح يعرف بـ (درب زبيدة). ولم يمضِ وقت طويل حتى شرع كبار المهندسين المعماريين آنذاك في بناء أكبر مشروع من نوعه في ذلك التاريخ لرعاية الحجّاج وسقايتهم والاهتمام بهم، حيث انطلق تنفيذ درب زبيدة للربط بين الكوفة ومكة المكرمة بطول يبلغ آلاف الكيلومترات عبر أشد المناطق شحًّا بالمياه في العالم.
ورهنت زبيدة جهدها وأفنت كثيرا من وقتها في متابعة المشروع حتى انتهى، ومن ثم تعهدته بالرعاية والاهتمام بعد إنجازه إلى أن فارقت الحياة في بغداد في جمادى الأولى سنة 216هـ، وهي أعظم نساء عصرها دينًا وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفًا، تاركةً وراءها إرثًا إنسانيًّا وتاريخيًّا خالدًا وصفه ابن جبير بقوله: "هذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها حتى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق".
وتم تصميم المشروع على أسس معمارية ولوجستية، حيث بدأ العمل بشق الطرق وإنشاء البرك وحفر الآبار وتشييد النزل والاستراحات على الدرب ابتداء من نقطة انطلاقته في الكوفة وانتهاء بمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، حيث توجت السيدة زبيدة مشروعها العظيم في منى وعرفات من خلال إنشاء الاستراحات وأحواض المياه وحفرت الآبار وأمرت المهندسين بجلب المياه من الجبال المحيطة بمكة وعبر قنوات أرضية صنعت خصيصًا لنقل المياه إلى بركة كبيرة داخل مكة أطلق عليها بركة زبيدة، وتضمّن المشروع بناء شبكة هائلة من خزانات الماء تبدأ من الكوفة (قرب المدينة الحديثة في النجف جنوب العراق)، مرورًا برفحاء (الحدود الشمالية) ثم يمتد هذا الدرب سالكًا نحو الجنوب الغربي، مستمرا عبر الصحراء إلى المدينة ومكة حسبما ذكرت الاقتصادية.