شهدت تايلاند في السنوات الأخيرة تطورات مذهلة وسريعة في مجال تقديم الخدمات الطبية والرعاية الصحية، والتي بفضلها صارت تحتل موقعا رائدا على هذا الصعيد، ليس على المستوى الآسيوي، وإنما أيضا على المستوى العالمي. ولعل أفضل دليل على صحة ما نزعم هو تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2000 والذي إحتلت فيه تايلاند المركز 47 عالميا لجهة خدماتها الطبية ومستويات الرعاية الصحية المتوفرة في مستشفياتها، علما بأن الولايات المتحدة وبريطانيا جاءتا في المركزين 37 و 18 على التوالي.
لقد عُــرفت تايلاند لسنوات طويلة بأنها بلد سياحي من الطراز الأول، وإقتصاد صاعد يستند إلى مقومين أساسيين (الصناعة السياحية وتصنيع الكماليات من أجل التصدير). لكن هذه البلاد التي لا يعرف شعبها السكون أو الخلود إلى الكسل، أضافت في السنوات العشر الأخيرة إلى إقتصادها ما يــُعرف بالسياحة العلاجية، والإستشفاء من خلال مصحات ومنتجعات الإسترخاء والتدليك والعلاج الطبيعي المعروفة إختصار بإسم "سبا". ولئن كان الإستشفاء بواسطة التدليك والأعشاب أمر تقليدي عرفته تايلاند، وغيرها من دول الشرق الأقصى، وروجت له منذ القدم، فإن جديدها الذي أصبح يستقطب أعداد متعاظمة من الأجانب كل عام، ويوفر بالتالي للبلاد دخولا إضافية بالبلايين من العملة المحلية (البات) هو إستثمار جهود وخبرات أطبائها ممن تعلموا وتخصصوا في أفضل جامعات ومستشفيات الغرب في توفير العلاج الطبي، وتقديم الرعاية الصحية وإجراء العمليات الجراحية بأقل التكاليف، من خلال حزمة عروض متكاملة، وذلك في مراكز مزودة بأحدث التقنيات والأجهزة، ناهيك عما يتوفر فيها من الأجواء المثالية للراحة والإستشفاء.
وهكذا تحولت تايلاند – بفضل ما سبق معطوفا على دعم ومساندة حكومتها، وما وضعتها الأخيرة من خطط وبرامج وأهداف محددة ومعايير وإشتراطات ملزمة لكل من يريد الإستثمار في القطاع الصحي – إلى مقصد للآلاف من المرضى الأجانب الذين تراوحت مشاكلهم الصحية ما بين أمراض القلب والشرايين والكبد وهشاشة العظام، وجراحة الفم والأسنان والعيون، وزرع الكلى والأطراف الصناعية، وعمليات التجميل والتخلص من الإكتئاب. وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى أن وزارة الصحة التايلاندية، وبمساندة شخصية من عاهل البلاد الملك "بهوميبون أدونياديت" وضعت خططا صحية تتضمن مراحل مختلفة، لكل منها هدفا محددا يجب بلوغه في تاريخ محدد. وقد أطلقت هذه الخطط في عام 2004 بخطة خمسية لتحويل البلاد إلى مركزفخم للعلاج الطبي على المستوى الآسيوي أولا، وذلك من خلال التركيز على توفير أرقى ما يمكن من الخدمات الطبية، والرعاية الصحية، وتأهيل المعاقين، والتداوي بالأعشاب، والعلاج الطبيعي. ووضعت الدولة لكل مجال من هذه المجالات هدفا. ففي مجال تقديم الخدمات الطبية مثلا كان الهدف هو زيادة أعداد الأجانب الذين يقصدون تايلاند للإستشفاء من 970 ألف في عام 2003 إلى مليوني شخص في عام 2010 ، وهو ما إستهدف في الوقت نفسه رفع ما ينفقه هؤلاء من 19 بليون إلى 80 بليون بات. ويبدو من التقارير الرسمية الموثقة أن الهدف المذكور لم يتحقق فحسب، وإنما تجاوز المتوقع! ففي عام 2005 وحده مثلا وصل عدد من قصد تايلاند من الأجانب لأغراض السياحة العلاجية نحو مليون شخص (150 ألفا منهم تلقوا العلاج في مستشفى واحد)، وبلغ حجم ما أنفقوه نحو 23 بليون بات. هذا ناهيك عما ورد في تقرير آخر حول العلاج من التعب والإرهاق والإكتئاب في منتجعات الراحة والإسترجاء التايلاندية. فهذا القطاع الذي تحتل فيه تايلاند مركز الصدارة، حقق للبلاد في عام واحد هو عام 2006 نحو 5.3 بليون بات، وفي العام التالي حقق 6.7 بليون بات، أي بنسبة زيادة بلغت 26 بالمائة.
وطبقا لمن راقبوا الصعود التايلاندي السريع والمبهر في القطاع الطبي، وما رافقه من تحقيق دخول خيالية للقطاعين العام والخاص، فإن العوامل التي ساهمت في ذلك يمكن إختصارها في ما يلي:
أولا: تمتع تايلاند بمزايا نسبية لجهة تنوع الخدمات الطبية المتوفرة، وإنخفاض كلفتها مقارنة ببقية الدول الآسيوية (مثل هونغ كونغ وسنغافورة) أو دول العالم الأول (مثل الولايات المتحدة وكندا). وفي هذا السياق يقول أحد الذين أجروا عملية جراحية في شرايين القلب في مركز طبي تايلاندي، إن الكلفة الإجمالية للعملية بلغت 12 ألف دولار إمريكي، بينما تصل تكلفة العملية نفسها في الولايات المتحدة الإمريكية إلى مائة ألف دولار.
ثانيا: وجود طواقم طبية تايلاندية على درجة عالية من التخصص والخبرة ممن تدربوا على أيدي أشهر الإستشاريين في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ناهيك عن وجود طواقم تمريض مدربة على تخفيف آلام المريض بما عـُرف عن التايلانديين من روح مرحة وكياسة وتهذيب، فضلا عن إلمام هذه الطواقم بعادات وتقاليد ولغات معظم الدول التي يأتي منها المرضى (أحد المستشفيات الخاصة المستقطبة للمرضى اليابانيين في بانكوك مثلا يوفر مترجمين لترجمة 22 لغة غير الإنجليزية). ولهذا يفضل المرضى اليابانيون مثلا الإستشفاء في تايلاند وعدم الذهاب إلى بلدان أقرب لليابان مثل تايوان وهونغ كونغ.
ثالثا: تشدد الحكومة التايلاندية في إلزام المستشفيات الخاصة ومراكز العلاج الطبيعي ودور النقاهة والإسترخاء بتطبيق جملة من المعايير التي تستهدف محافظة البلاد على ما بلغته من قوة تنافسية في قطاع السياحة العلاجية، مثل: الحرص الشديد على النظافة، وتحديث الأجهزة المستعملة بصفة دورية، وإخضاع العاملين في القطاع لدورات تدريبية مكثفة في حسن التعامل مع المرضى، وإختيار مواصفات هندسية وبيئية مرهفة عند تصميم مباني الإستشفاء والعلاج الجديدة، والتي ينتظر أن يـُنفق عليها ما بين 12 -25 بليون دولار إمريكي خلال السنوات العشر القادمة.
رابعا: توفر تايلاند للباحثين عن العلاج بشقيه الإكلنيكي والطبيعي أجواء وخدمات إضافية قد لا تتوفر في دول أخرى. هذا فضلا عن حقيقة إحتضانها لعدد كبير ومتنوع من المراكز الصحية(في بانكوك وحدها يوجد نحو 1200 مستشفى ومركز علاجي، منها 471 مستشفى يتبع القطاع الخاص.
خامسا: وضعت المستشفيات والمراكز الطبية وكليات الطب الجامعية في تايلاند – بدعم ومساندة وتشجيع من وزارة الصحة – خططا وبرامج طموحة منذ وقت طويل لعقد شراكات وروابط، وإجراء أبحاث طبية مشتركة مع أرقى المراكز الصحية والجامعات في دول الغرب المتقدمة، وذلك بهدف إكتساب أفضل الخبرات في المجالات الطبية المتنوعة ومجال الصيدلة وصناعة الدواء. وهاهي اليوم تحصد نتائج تلك الخطط والبرامج.
المصدر : شفاف الشرق الاوسط