كان لوصول قافله حسنين باشا لواحه جغبوب أثر عميق فى نفسه فقد كانت زيارته الثانية لهذة الواحه بعد عامين ،وقد إضطر هذة المره للإقامه بالواحه حوالى خمسه أسابيع بسبب مشاكل واجهته بخصوص إستئجار إبل و بسبب إنجذاب ساحر للواحه و جمالها و هدوئها و نقائها و خلال إقامته بها مر بتجارب حميمة من أنواع الضيافه و الترحيب من كبار الواحه و إنهالت عليه الولائم المتنوعه الثريه ففى كل وليمه كان يوضع أمامه على الأقل عشرون طبق من المأكولات فأحياناً ترسل له الوليمه فى خيمته و أحياناً أخرى ينتقل لسكن الداعى. وبالواحه إلتقى بأفراد من قبيله الباراسا و هم يعتبروا نبلاء قبائل الصحراء ،. و قد واجه حسنين باشا مواقف طريفه جداً و واجه أيضاً حرج شديد بسبب الإصرار الدائم على أهمية إلتهامه لمعظم الأطعمه المقدمه له حتى لو شبع لأن عدم الأكل و عدم إعلان الإستحسان يعد إهانه للمضيف مما أجبر حسنين على تناول عقاقير مهضمه فور فض المضيفه و إستقلاله بنفسه فى خيمته و كانت من ضمن أصناف الطعام المقدمه له كم ضخم من اللحم ففى كل مره يذبح خروف لوليمته فيقدم له الأرز المغطى بمرق اللحم و الزبد و اللحم المسلوق و بيض مسلوق بالأعشاب و البصل و المقانق ، لحم بالطماطم خضراوات من البامية و الكوسه مع قطع من اللحم الضأن – كسكس – سلطات – مهلبية – فطائر بالعسل و سد الحنك – و خلال إقامته بالواحه لجأ إلية العديد من أهلها طلباً للدواء لعلاج أمراض مثل العقم و السعال و كان يقدم ما يمكنه من مساعده حسب ما فى حوزته من العقاقير او يحاول إستخدام إسلوب الإقناع و قد واجه مواقف مضحكه و مواقف حرجه .
و طوال أيام إقامته بجغبوب واجه إحباطات عديده فى مهمة الحصول على إبل لإستكمال رحلته و فى اليوم الواحد و أربعون من إقامته و بمحض الصدفه دخلت قافلة للواحه يقودها رجال قبيله الزوى و معهم عدد كبير من الإبل و بعد مفاوضات و مقابل مبلغ مالى كبير وافقوا على إعطائه إبلهم و تحركت القافلة مغادره جغبوب فىاليوم الثالث و أربعون متجهتاً للغرب إلى واحه جالو .
و الجدير بالذكر أن رجال قبيله الزوى لا يحبوا الأجانب و لا يحبوا الإختلاط بالأغراب لكنهم أقدر الرجال على قطع الصحراء و أعلمهم بطرق السير فيها . تحركت القافله الى واحه جالو وسط عاصفة رملية و هى ظاهرة طبيعية يتفائل بها العرب و يقولون ( إن القافله التى تبدأ رحله فى عاصفة يكون نصيبها التوفيق و تصيب حظاً طيباً ) حيث ثارت الرمال لتلطم الوجوه و تلدغها و تطاير الحصى ليصيب الأرجل و الركب و الأفخاذ و تغيم السماء فلم يروا إلا أشباح الجمال القريبه منهم و يسجل حسنين أنه ليس فى وسع الإنسان فى هذا المناخ القاسى أن يبقى مفتوح العينين و لا هو يجسر أن يغمضها فلئن كان لدغ حبات الرمال شراً و بلاء ففقد الطريق و الإتجاه شر أعظم و بلاء أكبر. فكانوا يغطوا وجوههم بالكوفيات فإذا هدئت العاصفه الرملية لثوانى يكشفوا عن وجوهم و يلقوا نظره سريعه لتحديد الإتجاه و التأكد من الطريق ثم يستعدوا للهبة الثانية و هكذا . و من دروس الصحراء الواجبة الأحترام أنه عندما تبدء زوبعه أو عاصفه رملية واجب التحرك و الإندفاع فى السير مهما كانت الظروف حيث أنها إذا أصابت شيئاً ثابتا ً سواء كان رجلاً أو جملاً أو عاموداً تكدست حوله حتى تصبح ركاماً و هكذا فإذا كان فى السير عذاب و أهوال ففى الوقوف الموت الزؤام .
سيلاحظ المضطلع على كتب و مذكرات و سيره أحمد حسنين باشا مدى حرصه على تسجيل كل كبيره و صغيره بدقه متناهية لإفاده كل من يتبعه فى مثل هذة المغامرات و الرحلات الصحراوية و هو ما زاد من إعجاب و إحترام المؤسسات الجغرافية العالمية لشخصه و ما دفع العديد من دول العالم تكريمه فى إحتفالات كبيره و تقليده أرفع الأوسمه لإنجازه العلمى الجغرافى و دقه التفاصيل التى سجلها فى خرائط هذا القطاع من صحارى شمال إفريقيا و التى أصبحت معروفه بفضله .و قد إستمرت العاصفه حوالى سته ساعات كامله لاحظ أن الأبل لم تتوقف قط بسبب هذه العاصفة القاسية و إستمرت فى السير ببطىء حيث أن غريزتها تجعلها تتوقع الموت إذا توقفت عن السير فهى كائنات ذكية جداً و يهمنى أن اسجل تأكيد لهذا الذكاء حيث كنت فى رحلة فى جبال سيناء و توقفت فى موقع مكشوف للراحه و لاحظت مرور عدد من الجمال بحرية ترعى دون مرافق و كنت أراجع خريطتى عندما سمعت رغاء جمل خلفى فإلتفت إتجاهه لأرى الجمل يرفع رأسه لأعلى فى إتجاهى ثم يهبط بها و يدفع بشىء فى إتجاهى لم أتمكن من تمييزه فنهضت و سرت فى إتجاه الجمل و الذى توقف عن الرغاء عندما لاحظ تقدمى فى إتجاهه و عندما أصبحت المسافه بيننا هى أمتار عاود الرغاء مع دفع دلو من البلاستيك فى إتجاهى برأسه فلاحظت أن الدلو مربوط بحبل طويل مثبت فى شجره صحراوية كما لاحظت مربع من الأسمنت لم أراه من بعد و به فتحه لأكتشف أنه بئر ماء و تنبهت أن الجمل يطلب منى معاونته فى رفع الماء الى حوض جاف بجوار البئر ليشرب و بالطبع ألقيت كل ما فى يدى و قمت بإلقاء الدلو فى البئر و سحبه عده مرات حتى تم ملىء الحوض بالماء و شرب الجمل كفايته كما حضر جمل أخر لنفس الغرض فوقفت أتمتع بهذا الكائن الذكى النبيل و الذى على ظهره دخل رسول الله صلى الله علية وسلم المدينه المنورة ثم بعد ذلك برك بإراده الله فى الموقع الذى تم علية تشييد أول مسجد بالمدينه و على ظهره عاد الرسول الكريم لمكه .
عوده الى مغامره الرحاله المصرى العظيم حسنين باشا فقد واجهت رحلته من جغبوب إلى جالو عده زوابع رملية بعضها بلغ حد الخطر كما أجبرت الغرود الرملية القافله على الإلتفاف لتفاديها و أجبرت بالتالى على التعرج فى سيرها و ما تبع ذلك من جهد بالغ فى تتبع البوصلة و مع كل هذا كانت الصحراء ما تلبث أن تكشف وجهها الجميل و سحرها عندما تسكن هذة الزوابع والعواصف و يشرق القمر لتأخذ شكلاً جديداً تحت ضوئه السحرى الباهت فتجتمع القافله حول نار الحطب لتناول كؤؤس الشاى بعد العشاء و يبدء الحديث و الأنظار مشدوده لألسنه النيران الراقصه و تقص القصص و الطرائف و تنطلق الضحات و التعليقات ثم يبدء الغناء العربى الرخيم عن الحب و الذى تحمله أجنحه نسيم الليل البليل و عندما يتوقف الغناء يحدث سكون شامل لا يسمع فيه غير ازير النار الخامده . و قد مرت القافله على غابات متحجره و إضطروا عده مرات الخروج عن خط السير لبلوغ بقاع عشبيه لرعى إبلهم . و بعد عشره أيام من مغادره واحه جغبوب وصلوا لبئر مياه عذبة و بعد إثنى عشره يوما بلغوا مشارف واحه جالو و بدء سكان الواحه يستعدوا لإستقبالهم بالحفواه و الكرم اللائق فأمر حسنين باشا رجال القافله إرتداء أجمل ملابسهم إستعداداً للإستقبال الرسمى و الذى سيقوم به كبار رجال واحه جالو لهم .