الاحتفال بالمولد والجذور
بقلم : د محمد فتحى راشد الحريرى
الاحتفال من الجذر الثلاثي (ح ف ل) ويفيد الامتلاء والاجتماع والتزيّن .
فالحاء والفاء واللام أًصلٌ واحد، وهو يفيد الجمع كما أسلفنا. يقال حَفَل النّاسُ واحتفَلوا، إذا اجتمعوا في مجلسهم. والمجلِس مَحْفِل.
وفي المعاجم: الحَفْل اجتماع الماء في مَحْفِلِه، تقول: حَفَل الماءُ يَحْفِل حَفْلاً وحُفُولاً وحَفِيلاً وحَفَل الوادي بالسَّيْل واحْتَفَل جاء بِملءِ جَنْبَيْه وقول صخْر الغَيِّ:
أَنا المثَلَّم أَقْصِرْ قبل فاقِرَة*** إِذا تُصِيبُ سَوَاءَ الأَنف تَحْتَفِل
معناه تأْخذ مُعْظَمَه ومَحْفِل الماء مُجْتَمَعُه وفي الحديث في صفة عمر ودفقت في مَحافِلِها جمع مَحْفِل أَو مُحْتَفَل حيث يَحْتفل الماء أَي يجتمع وحَفَلَ اللَّبنُ في الضَّرْع يَحْفِل حَفْلاً وحُفُولاً وتَحَفَّل واحْتَفَل اجتمع وحَفَلَه هو وحَفَّلَه وضَرْع حافِل أَي ممتلئ لبناً وشُعْبة حافل ووَادٍ حافِل إِذا كَثُر سَيْلُهما والجمع حُفَّل ويقال احْتَفَل الوادي بالسيل أَي امتلأَ والتَّحْفيل مثل التَّصْرِية وهو أَن لا تُحْلَب الشاة أَياماً ليجتمع اللبن في ضَرْعها للبيع ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصرية والتحفيل لما فيهما من غرر وغش واضح في البيوع. ومنه نستنتج أن الاحتفال هو اجتماع فئة من الناس للإعراب عن فرحتهم بمناسبة من المناسبات أو تخليدا لحدث من الأحداث.
وحَفَلَ الشيءَ يَحْفِله حَفْلاً جَلاه وزيَّنه، قال بشر بن أَبي خازم يصف جارية:
رأَى دُرَّةً بيضاءَ يَحْفِل لَوْنَها ***سُخَامٌ كغِرْبان البَرِير مُقَصَّبُ
الدرّة هي الفتاة ويَحْفِل لَوْنَها يَجْلُوه ، يريد أَن شَعَرَها يَشُبُّ بَيَاضَ لَوْنِها فيَزِيده بياضاً بشدَّة سواده فالأشياء تتميّز بأضدادهـا، وقد قيل:
والضدُّ يُظهِـرُ حسنه الضــدُّ ، قال ابن بري: أَراد بالسُّخَام شَعَرَها وكل لَيِّنٍ من شعر أَو صُوف فهو سُخَام( قلت: والسخام بالأصل هو ذرات الكربون المتولّدة من سُرُج الزيت، وكلُّ أسود هو سخام، وسخمه سوَّده) والمُقَصَّبُ الجَعْد، والتَّحَفُّل التزيُّنُ والتحفيل التزيين، قلت أيضـاً: وكأنه جمعٌ لما يُظهر صاحبه بهيئةٍ جميلةٍ حسنة!!
قال وجاءَ في حديث رُقْيَة النَّمْلة: (العَرُوس تَقْتَال وتَحْتَفِل، وكُلَّ شيءٍ تَفْتَعِل، غير أَنَّها لا تَعْصِي الرَّجُل) ، معنى تَقْتَال تَحْتَكم على زوجها وتَحْتَفِل تتزين وتحتشد للزينة (قلت: أي تجمع أسبابها) ، ويقال للمرأَة تَحَفَّلي لزوجك أَي تَزَيَّني لتَحْظَيْ عنده وحَفَّلْت الشيءَ أَي جَلوته فَتَحَفَّل واحْتَفَل وطريق مُحْتَفِل أَي ظاهر مُسْتَبِين وقد احْتَفَل أَي استبان واحْتَفَل الطريقُ وَضَح، قال لبيد بن أبي ربيعة رضي الله عنه ،يصف طريقاً:
تَرْزُم الشارِفُ من عِرْفانِه ***كُلَّما لاح بنَجْدٍ واحْتَفَل
وشاع في هذه الأيام بين المتأدبين والمؤرخين استخدام عبارة( الاحتفاء بالمولد) تعبيرا عن الاحتفال بل وبديلاً عنه ، فما وجه المقاربة أو المفارقة بين (ح ف ل) وبين ( ح ف ي) ، أي بين الاحتفاء والاحتفال؟؟؟
الاحتفاء أصلا وجذراً من (ح ف ي) والحافي من لا نعل أو خف برجليه، والحَفا: رِقَّة القَدم والخُفِّ والحافر، حَفِيَ حَفاً فهو حافٍ وحَفٍ، والاسم الحِفْوة والحُفْوة.
وقال بعضهم: حافٍ بيِّنُ الحُفْوة والحِفْوة والحِفْية والحِفَاية، وهو الذي لا شيء في رِجْله من خُفٍّ ولا نَعْل، فأَما الذي رقَّت قَدماه من كثرة المَشْي فإنه حافٍ بيّن الحَفَا، أي واضحه.
وحَفَا شارِبَه حَفْواً وأَحْفاه: بالَغَ في أَخْذه وانتقص من طوله.
وفي الحديث الشريف: أَنه عليه الصلاة والسلام، أَمر أَن تُحْفَى الشواربُ وتُعْفَى اللِّحَى أَي يُبالَغ في قَصِّها.
وفي التهذيب: أَنه أَمر بإحْفاءِ الشوارب وإعْفاء اللِّحَى. الأَصمعي: أَحْفَى شارِبَه ورأْسَه إذا أَلزق حَزَّه، قال: ويقال في قولِ فلانٍ إحْفاءٌ، وذلك إذا أَلْزَق بِك ما تكره وأَلَحَّ في مَسَاءَتِك كما يُحْفَى الشيءُ أَي يُنْتَقَص. وليس احفاء الشوارب كما يفهمها بعض المراهقين ازالتهما وإنما انتقاصهما .
والاحتفاء جذورا: من التَّحَفِّي، وهوالكلامُ واللِّقاءُ الحَسَن.
وقال الزجاج في قوله تعالى: ((قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيإنَّه كان بِي حَفِيّاً)) سورة مريم/47؛ معناه لطيفاً.
ويقال: قد حَفِيَ فلان بفلان حِفْوة إذا بَرَّه وأَلْطَفه.
وقال الليث: الحَفِيُّ هو اللطيف بك يَبَرُّكَ ويُلْطِفك ويَحْتَفِي بك.
وقال الأَصمعي: حَفِيَ فلان بفلان يَحْفَى به حَفاوة إذا قام في حاجته وأَحْسَن مَثْواه.
وحَفا الله به حَفْواً: أَكرمه. وهكذا فالعرب تعني بالاحتفال الاجتماع لمناسبة أو تخليد حدث، بينما الاحتفاء هو استعمال للإعراب عن تكريم صاحب الحدث، ومن هنا أجاز المتأخرون تعاور الكلمتين لما بينهما من مشاكلة جذورية.
هذا عن الاحتفال في الجذور اللغوية، أما عنه في الجذور التاريخية:
يقال: إنّ الملكَ المظفر كان أوّلَ من أظهرَ الاحتفاءَ بالمولد ، وأحيا بذلك بدعةَ العبيدين المدّعين بانتسابهم إلى الفاطميين في مصر لمّا حكموها (1).
نقل ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط.. وقال ان المحتفلين بالمولد مأجورون بنيّاتهم ، والله أعلم.
وأكّـد السُّيوطيُّ أنّ أولَ مَن أحدثَ عملَ المولدِ هو الملكُ المظفرُ ملكُ إربل وكان منَ الملوكِ الأمجادِ والكبراءِ الأجوادِ وكانَ له آثارٌ حسنةٌ وهو الذي عمّر الجامعَ المظفريَّ بسَفْحِ قاسْيون (قرب دمشق العامرة).
وقال ابنُ كثيرٍ في تاريخِه(البداية والنهاية) عن هذا الملك: "كان يعملُ المولدَ الشريفَ في ربيعٍ الأول ويحتفلُ به احتفالاً هائلاً، وكان شهمًا شجاعًا بطلاً عالِمًا عادِلاً رحمه اللهُ وأكرَمَ مثواه"، وجميع الصالحين الأبرار.
وقال ابنُ كثير: "وقد صنفَ له الشيخُ أبو الخطابِ بنُ دحية مجلدًا في المولد سماه" التنويرُ في مولدِ البشيرِ النذير" وقد طالتْ مدتُه في المُلك إلى أن ماتَ وهو محاصِرٌ للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة للهجرة، وكان محمودَ السيرة والسريرة. ولم يَعترِضْ عليهِ في هذا الفعلِ في عصرِه ولا فيما بعدَه أحدٌ منَ العلماءِ المعتبرينَ بلْ وافقُوا على ذلكَ ومدَحُوه لما فيه من البركةِ والخيراتِ.
ويحارب بعضهم الاحتفال بالمولد معتبريه بدعة منكرة، فيوم المولد مجهول (2) ويوم الثاني عشر من ربيع الأغـرّ هو يوم وفاته فكأننا نحتفل بموته!
ويردُّ المجيزون بأن الاحتفال إنما هو ذكر لشمائله ومناقبه وسنّته.
قلنا: والاحتفال قطعا مباح لأنَّ الأصل في الأعمال الإباحة مالم نجعله عبادة وطقسا يقيمه الناس الزامياً، وانما احتفاء بصاحب المناسبة وذكر مناقبه وسجاياه.
لكُلِّ قلبٍ حبيبٌ يُستهامُ بِه *** لكن حَبيبي رسولَ اللهِ أحتسِبُ
——— حاشية:
(1) من كتاب رجال من التاريخ
للشيخ علي الطنطاوي ،نقلاً عن القاضي الثقة ابن خلكان في وفياته كما حكى الشيخ الطنطاوي وقد نقل وصفه للمولد وعرّف من هو المظفر.
(2) ثبت من تاريخ المولد يوم الإثنين فقط من عام الفيل ، ورجَّح الباحثون والإخباريون شهر ربيع الأول، ثاني عشر أو الحادي والعشرين أو الثامن والله أعلم.