انتقل من قصر إلى ثكنة عسكرية ومن دار للمخزن إلى مكان للمقيم العام الإسباني
كومندنسيا.. موقع أثري مهمل تحول إلى أجمل منشأة ثقافية بالعرائش
موقع "كومندنسيا" أضحى اليوم مركزا ثقافيا بامتياز، بعد أن خضع لعملية الترميم، أعادت له الروح بعد أن مسه النسيان، وأصبح من أجمل المنشآت الثقافية بالعرائش. أوضح العربي المصباحي، المندوب الإقليمي لوزارة الثقافة بالعرائش، الذي التقته "المغربية"، في زيارة خاصة للمدينة، واستقبلنا في مكتب كان في ما مضى مكتبا لقائد إسباني كبير، إن مقر "كومندنسيا"، يعود بناؤه إلى فترة المولى إسماعيل، أي إلى القرن السابع عشر، مضيفا أنه كان في البداية عبارة عن قصر محاط بمجموعة من المرافق، وكان يعتبر مقرا رسميا لممثل السلطة، المعروف بقصر الباشا، أو دار المخزن.
وكان يشتمل على طابق أرضي فقط، لكن الاستعمار الإسباني في بداية القرن العشرين، تدخل وغير مجموعة من الأشياء، وكانت تدخلات ناجحة أحيانا، حسب رأيه، من ضمنها هذه البناية، حيث تم بناء طابق علوي بها، وأصبحت تعرف بـ"كومندنسيا"، كما هو شائع على لسان سكان العرائش.
وأضاف المتحدث أن هذه التحفة المعمارية استغلت كمقر للقيادة العسكرية الإسبانية، التي أدخلت عليها مجموعة من الزخارف، وبعد أن تدهور حالها، بادرت وزارة الثقافة بترميمها بشكل جيد وبشكل علمي، وحولتها إلى مركز ثقافي، يشتمل على مجموعة من المرافق، كالمعهد الموسيقي الذي يوجد في الطابق الأرضي، وإدارة المندوبية الإقليمية لوزارة الثقافة، ثم مكتبة".
وأبرز المصباحي أن "كومندنسيا" تستقبل سنويا 500 طالب يتابعون فيها دراستهم في مختلف المجالات الموسيقية، وتخرج منها مئات الموسيقيين الذين يشتغلون الآن مع فرق موسيقية مهمة داخل أو خارج المغرب". وأضاف أن "المدينة تعرف نقطة تحول مهمة، تتمثل في انتشار المكتبات، التي تعتبر عنصرا ثقافيا مهما، حيث توجد 11 مكتبة، تابعة لوزارة الثقافة، فضلا عن المكتبات التابعة لبعض الجهات، أو الإدارات، وهي مكتبات تساهم، أيضا، في تنشيط الحركة الفكرية والثقافية بالمدينة، باعتبار الكتاب أداة الأساسية لنقل العلم والمعرفة للشباب من طلبة، وكل من له ميول لقراءة الكتب".
العربي المصباحي: موقع ‘اليكسوس’ يحظى بدوره بعمليات ترميم واسعة
تفتخر مدينة العرائش بموقعها الأثري اليكسوس، جوهرة المدينة العريقة، التي لا يمكن ذكرها إلى مقرونة باسم المدينة الشمالية. يخضع الموقع حاليا، حسب العربي المصباحي، المندوب الإقليمي لوزارة الثقافة للعرائش، لعمليات مكثفة للصيانة من طرف وزارة الثقافة، وفقا لاستراتيجية إعادة الاعتبار للمواقع الأثرية، التي تنهجها هذه الأخيرة، للحفاظ عليها من التدهور والاندثار ودمجها في الخريطة السياحية المغربية، فكان لابد من أعطاء اهتمام كبير لموقع "اليكسوس"، من أجل ترميمه وبناء منشأة ثقافية مجهزة بمرافق حيوية تسهر على تدبيره، ستفتتح أبوابها قريبا أمام الزوار المغاربة والأجانب، الذين لا يفوتون فرصة زيارة الموقع الأثري الذي يعتبر أيقونة العرائش التاريخية والثمينة.
مازال "اليكسوس"، قابعا فوق ربوة "الشميس"، معلنا للعالم صموده أمام رياح التطور والعصرنة، شاهدا على حضارات عريقة اتخذت من الموقع التاريخي مكانا رياديا لها، في شتى المجالات، يقابله مجموعة من الملاحات، التي غادرها أصحابها، لكن بقيت رابضة، تنتظر لعل أحدا منهم يعود يوما كي يعيد لها الحياة. في الجهة المقابلة لليكسوس، توجد بقايا أثار لمعامل تمليح الأسماك التي لعبت دورا كبيرا سنوات خلت، لكنها اندثرت وغير بعيد عن المكان يترأى من بعيد المركب السياحي الكبير، معلنا عن بداية انطلاق مشاريع سياحية بالجوهرة الزرقاء.
يقول العربي المصباحي "بعد أن مس الإهمال الموقع الأثري اليكسوس، وظل عرضة للتدهور الطبيعي والبشري منذ الاستقلال إلى حدود 2010، تم الشروع، أخيرا، في إعادة الاعتبار له وإبراز قيمته التاريخية، وحتى مؤهلاته السياحية".
وأبرز أن هذه البادرة اتخذتها وزارة الثقافة، واستثمرت فيها لحد الآن 10 ملايين درهم، تم رصدها سنة 2010، للغرض نفسه، وبناء منشأة ثقافية في أحد أركانه، بحيث ثم إحاطة الموقع أولا بسياج لحمايته، ومنع الدخول العشوائي للرعاة والحيوانات، التي كانت تساهم في تدهور البنايات الأثرية للموقع.
وتشمل المنشأة الثقافية، يضيف المصباحي، مجموعة من المرافق الحيوية التابعة لها، تتمثل في إدارة تسهر على تدبير شؤونها، وإنشاء متحف لعرض التحف الأثرية، التي سيتم استخراجها من الموقع نفسه، بالإضافة إلى مكتبة، وبعض المرافق الترفيهية التي ستكون رهن إشارة الزوار، مشددا على أن الموقع الأثري "اليكسوس"، سيفتتح أبوابه مستقبلا للزوار المغاربة والسياح الأجانب، وكذا عشاق الآثار القديمة.
ودعا المصباحي في لقائه مع "المغربية"، القائمين عن الأعمال السياحية، إلى إدخال هذا الموقع الأثري في خرائطهم وبرنامجهم السياحي، وقال في هذا الصدد إن عملية إعادة الاعتبار للمواقع الأثرية، ستشمل الموقع الأثري "امزورة" ، الذي يوجد، أيضا، بمدينة العرائش. من جهة أخرى، أبرز المصباحي، بصفته باحثا ومتخصصا في علوم الآثار، أن "اليكسوس"، يكتسي أهمية كبرى عبر التاريخ، ويمثل إحدى أقدم وأعرق المدن التاريخية على الساحل الأطلسي، التي تبعد بـ3 كيلومترات من العرائش. بنيت اليكسوس على ضفة نهر اللكوس من المدخل الشمالي للعراش، على مساحة تقدر بـ75 هكتارا، يزيد عمرها عن أكثر من 2000 سنة.
وتفتخر مدينة العرائش بهذا المخزون الأثري المهم الذي يدل على عراقة هذه المنطقة وتاريخها الحافل بمرور شعوب وحقب تاريخية تعود إلى أمم سابقة. وشدد المصباحي على أن العرائش من أقدم المناطق استيطانا في منطقة الشمال، حيث تتوفر على أقدم المواقع الأثرية، ضمنها هذا الموقع الأثري، الذي يكتسي أهمية تفوق الحيز الوطني، نظرا لكونه موقعا معروفا على الصعيد الدولي، خاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بحيث لا يفصلنا على البحر الأبيض المتوسط سوى 80 كيلومترا، والمنطقة كانت مرتبطة دائما بهذه الحركة البحرية، ومن هنا جاءت أهمية هذا المنتجع، الذي مازال لم يخضع كاملا للتنقيب.
وزاد المصباح قائلا إن هناك أسطورة تتحدث عن بناء معبد على ربوة الشميس، يعني أن الأسطورة تتحدث عن وجود نوع من الاستيطان في المنطقة منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وهناك شواهد أثرية كثيرة استخرجت من الموقع تؤرخ للفترة الفينيقية، بحيث أن المدينة كانت موجودة منذ القرن الثامن قبل الميلاد، ككيان حضري معروف كان يمارس أنشطة اقتصادية وسياسية وإدارية، مرتبطة بباقي المدن، وبباقي المرافق الموجودة حول البحر الأبيض المتوسط.
واستمرت المدينة في التشكيل وفي الازدهار والتطور، خلال الفترة القرطاجنية وفي فترة الممالك البربرية، ثم يأتي، أيضا، الاحتلال الروماني للمغرب، الذي سوف يستقر في هذه المنطقة، وستصبح "اليكسوس" من أهم المدن الرومانية في شمال إفريقيا وفي المغرب خاصة، سواء من الناحيتين الاقتصادية والعمرانية، بحيث أن المدينة كانت تمتد على مساحة إجمالية تقدر بـ75 هكتارا، وكانت تعتبر من الناحية العمرانية أكبر من وليلي مثلا.
وإذا كانت وليلي تعتبر العاصمة الإدارية للحكم الروماني، فإن "اليكسوس" كانت تحظى بوضعية قانونية متميزة، باعتبارها كانت من أهم المدن، وشيدت بها معامل لتمليح السمك وصناعة "الكاروم"، والتي كانت تعتبر من أهم المنشآت الصناعية في غرب البحر الأبيض المتوسط، مؤكدا أن "اليكسوس"، كانت تختزل أكبر المعامل في هده المنطقة، التي كانت معروفة في تلك الفترة وكانت منتوجاتها تسوق لمختلف مدن الروماني والإمبراطورية الرومانية، وإلى باقي مرافئ ومدن البحر الأبيض المتوسط.
كما شهدت الليكسوس ازدهارا في الحركة العمرانية، إذ شيدت بها مجموعة من البنايات الفاخرة المزخرفة بنقوش وأشكال هندية ذات جمال رائع، كاللوحات المرصعة بالفسيفساء التي استخرجت من هذا الموقع، والتي تعرض حاليا في المتاحف الأثرية لمدينة تطوان، والتي تدل على المكانة الاجتماعية التي كان يتمتع بها سكان "اليكسوس" في العهد الروماني، دون أن ننسى الموقع الجغرافي الذي تتميز به مدينة العرائش، كممر ضروري ما بين الجنوب والشمال المغرب.
هذه الأهمية التاريخية، يوضح المصباحي، سوف تستمر في فترة الفتح الإسلامي مع استقرار الحضارة بمدينة اليكسوس قبل أن تبنى مدينة العرائش الحالية، لأننا مازلنا نتحدث عن الاستيطان العربي الإسلامي في "اليكسوس" إلى حدود القرن الرابع عشر الميلادي، ومن هنا سوف يتم إنشاء المدينة الحديثة ى(العرائش)ة على ربوة، أي على الضفة اليسرى لنهر اللكوس، بينما كانت اليكسوس على الضفة اليمنى، وهما متقابلتان الأولى تنظر للأخرى.
يقول المندوب الإقليمي لوزارة الثقافة إنه انطلاقا من القرن الخامس عشر، تأسست العرائش في عهد الوطاسيين، والنصوص التاريخية تتحدث عن أن الدولة الوطاسية أعطت أهمية كبرى لمدينة العرائش، وبنت بها القصبة، بمثابة النواة الإدارية والعسكرية والمخزنية للمدينة، وهي المنطقة التي يوجد بها الآن المعهد الموسيقي "كومندنسيا"، وحي القصبة الذي مازال معروفا بأسواره وأبوابه.
هذا الحي مازالت آثاره بارزة إلى اليوم، حيث تم تأسيسه في الفترة السعدية بعد أن اشتد الخناق على المدن الشمالية على يد البرتغاليين منذ 1415، لكن العرائش ستظل ثغرا من الثغور المهمة لصد الهجومات والتوسعات التي كان يقوم بها البرتغاليون، خاصة الذين استقروا في أصيلة، حيث ستصبح المدينة بالأساس ثغرا جهاديا يدافع ويدفع الغزو البرتغالي الذي كان يحقق انتصاراته على عهد السعديين.
ونحن نعلم – يقول المصباحي- أن المغرب سيحسم في أمهات المعارك الشهيرة، وهي معركة وادي المخازن التاريخية في سنة 1578، ما دفع البرتغال إلى بداية الانسحاب من المغرب، إلى أن انسحبت نهائيا مع متم القرن 17. خلال الودود البرتغالي في المناطق الساحلية، من القرن الخامس عشر إلى حدود القرن السابع عشر، ستعطي الدولة السعدية أهمية قصوى للمدينة، حيث سيتم تحصينها بحصنين قويين، أحدهما من الجهة البحرية، والآخر من الجهة البرية، وكانا بمثابة المفاتيح الرئيسية التي تتحكم في إدارة المدينة لضمان السلم والأمن داخلها.
واستمر وجود العرائش وازدادت وقوتها في فترة العلويين، سيما في عهد سيدي محمد بن عبد الله، الذي بنى بها ميناء خاصا سيصبح من الموانئ المهمة شمال المغرب، حيث كان يصدر منه المواد الفلاحية الأساسية، التي كانت تنتج في المنطقة، وتصدر إلى الدول الأخرى، خاصة إلى إسبانيا، وباقي دول البحر الأبيض المتوسط.
كانت العرائش، حسب المصباحي، دائما مدينة صغيرة من حيث الرقعة الجغرافية، لكن لعبت أدوارا طلائعية ومهمة، سواء في التاريخ الوسيط أو التاريخ الحديث، خاصة خلال الدولة العلوية، منذ سيدي محمد بن عبد الله إلى المولى إسماعيل، الذي سوف يحرر المدينة مرة أخرى، بعد ما احتلها الإسبان سنة 1610، في إطار الصراع على السلطة.
لكن سيتم استرجاعها بعد صراع مرير، بل سيصبح استرجاع العرائش له دلالة كبيرة جدا، للقضاء على الاستعمار الإسباني الذي سيولي لهذه المدينة، في إطار سياسته العمرانية، أهمية كبيرة وإنشاء مدينة موازية للمدينة العتيقة، لكن في إطار انسجام وتوافق وتناغم ما بين الحي الجديد، وهو الحي الإسباني "ساحة التحرير"، المعروف برونق وجمال رائع، ذي لمسات غربية يتخللها طابع أندلسي مذهل، حيث أن الساحة نفسها، تعتبر بمثابة متحف مفتوح لفن العمارة المغربية الأندلسية، خاصة في شقها الحديث.