اعلانات الهيدر – بجانب اللوجو

Al Masalla-News- Official Tourism Travel Portal News At Middle East

الوراثة : علم القرن العشرين بقلم الدكتور عبدالفتاح بدر

خواطر عن علوم الحياة

الوراثة : علم القرن العشرين

 

أستاذ دكتور : عبدالفتاح بدر 

كلية العلوم – جامعة حلوان

 

القاهرة "المسلة" …. رغم إدراك الإنسان لأهمية تحسين صفات النباتات والحيوانات منذ عصور ما قبل كتابة التاريخ حين اكتشف الإنسان الزراعة واستقر فى مجتمعات بشرية ثابتة، ورغم التطبيق العملى لأسس الوراثة فى تحسين الصفات من خلال التهجين منذ زمن بعيد بغية الحصول على سلالات متميزة من النباتات والحيوانات، ورغم شغف الإنسان على مر العصور مدفوعاً برغبته الغريزية لمعرفة آليات انتقال صفاته إلى أولاده، رغم كل ذلك لا يمكن الزعم أن لعلم الوراثة جذور تاريخية تعود إلى عصور الحضارات القديمة كعلم الرياضيات أو علم النبات على سبيل المثال، فقد فشل الإغريق والرومان فى وضع أسس صحيحة للوراثة لاعتقادهم أن المورثات تسير فى الدم ولم يكن لعلماء العرب والمسلمين اكتشافات صحيحة فى علم الوراثة كتلك التى توصلوا إليها فى علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والصيدلة رغم إدراك الإسلام لأهمية الوراثة وتفعيل أسسها فى تحريم التبنى، ورغم قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم"تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"، حتى علماء النهضة الأوروبية التى صاحبت الحملات الاستعمارية لأوربا بعد اكتشاف أمريكا لم يكن لهم آراء سديدة فى علم الوراثة قبل القرن العشرين، ومن المثير للانتباه أن من وضع أسس علم الوراثة لم يكن من علماء علم الأحياء بل كان راهبا اسمه جريجور مندل Gregor Mendel(1822-1884) ومن الغريب أنه فشل فى الحصول على شهادة تؤهله للدراسة الجامعية فالتحق بدير القديس توماس فى برون التى كانت تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية فى القرن التاسع عشر وهى الآن برنو فى جمهورية التشيك وأصبح راهباوعمره في ذلك الوقت 25 عاماً، كان الدير في ذلك الوقت، مركزاً علمياً بالإضافة إلى كونه مركزاً دينياً فابتعث مندل لدراسة العلوم والرياضيات فى جامعة فيينا وفي عام 1853 عاد إلى الدير وعمل مدرسا للرياضيات والعلوم في مدرسة محلية لمدة 14 سنة كان خلالها يجرى تجاربه على وراثة الصفات فى نبات البسلة التى وضعت نتائجها بعد وفاته أسس علم الوراثة.


يعود اكتشاف أسس صحيحة للوراثة إلى عام 1900 عندما تبين صحة استنتاجات استخلصها مندل من نتائج تجارب مبتكرة أجراها على توارث الصفات فى نبات البسلة ونشرها عام 1866، وتعتبر الاستنتاجات التى وضعها مندل عن الانعزال والتوزيع الحر لعوامل الوراثة أو الجينات (المورثات) فى الخلايا التناسلية (الجاميطات)، والسيادة والتنحى لأشكال الصفات الظاهرية فى الأفراد قواعد أساسية لعلم الوراثة كما نعرفه اليوم، ففى عام 1900 قدم كل من كورينز Correns ودى فريز de Vries وتشيرماك Tschermak ما يدل على صحة استنتاجات مندل، وفى عام 1902 أعلن كل من ساتون Sutton وبوفرى Boveri أن سلوك الكروموسومات أثناء تكوين الخلايا التناسلية يتفق مع الانعزال والتوزيع الحر لعوامل الوراثة وهى المبادئ التى استخلصها مندل، وخلال السنوات الأولى من القرن العشرين استطاع توماس مورجان Thomas Morgan ومعاونوه من خلال تجارب عديدة على وراثة الصفات فى ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا) اكتشاف أن الجينات توجد فى الكروموسومات، كما استخلص مورجان من نتائج تجاربهوتجارب قام بها كل من باتيسون Bateson وبانيت Punnett على وراثة الصفات فى نبات بسلة الزهور ظاهرتى الارتباط والعبور للمورثات خلال الانقسام الميوزى فى خلايا أعضاء التكاثر عند تكوين الجاميطات (أى الخلايا الجنسية المذكرة والمؤنثة)، وقد وضعت نتائج دراسات مورجان ومعاونوه ومعاصروه قواعد الوراثة السيتولوجية وهى أحد علوم الوراثة الأساسية.


وفى العقد الأول من القرن العشرين أيضا سجل أرشيبالد جارود Garrod عام 1902 أول الأمراض الوراثية فى الإنسان واستخلص نيلسون ايل Nilsson Ehle مبادئ الوراثة الكميةواكتشف باتيسون وبانيت تداخل الجينات، كما وضع كل من البريطانى هاردى Hardy والألمانى فاينبرج Weinberg أساس وراثة العشائر عام 1908، وقد كان باتيسون أول من أطلق اسم الوراثة Genetics على العلم الوليد عام 1905، أما استخدام كلمة جين Gene للتعبير عن المورثات فيرجع إلى يوهانسن Johannsen عام 1908،ومع تصاعد الاهتمام بالدراسات الوراثية تم اكتشاف الطفرات التى يرجع تأصيلها إلى العالم الألمانى موللر Muller عام 1927 من خلال تجاربه على تأثير الأشعة السينية على الخلايا، وكذلك اكتشاف التحول الوراثى فى البكتريا بواسطة فريدريك جريفيث Griffith عام 1928 من خلال تجاربه على انتقال الصفات بين سلالات بكتريا الالتهاب الرئوى، وخلال العقد الرابع من القرن العشرين تأكدت نظرية الكروموسومات فى الوراثة وتفسير عبور المورثات خلال الانقسام الميوزى بواسطة هاريت كرايتون Creightonوباربارا ماكلنتوك McClintock من خلال دراسات على الارتباط والعبور فى الذرة وكذلك بواسطة كورتشتيرن Stern من خلال دراسات على الإرتباط والعبور فى حشرة الدروسوفيلا.


خلال العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين وباستخدام طرق بحث كيميائية، ومن خلال تجارب على الكائنات الدقيقة أبرزها تجارب إروين شارجافChargaff ووأوزوالد أفرى Avery ومعاونوه عام 1944 وهرشى Herchy وتشيس Chase وزندر Zinder وليدربرج Lederberg عام 1952، تبين أن مادة الجينات هى الحامض النووى الريبوزى منقوص الأكسجين (الديؤكسى ريبوزى) DNA (دنا). وفى عام 1953 تمكن العالم الأمريكى جيمس واتسون Watson والبريطانى فرانسيس كريك Crick من وضع نموذج الحلزون المزدوج لتركيب الدنا فى سلسلتين (شريطتين) ملتفتين، كحبل يتكون من ضفيرتين، وفى عام 1958 أثبت كل من مسيلسون Messelson وشتال Stahl أن دنا يتضاعف فى نسختين تشبهانه تماما تذهب كل منهما إلى خلية جديدة عند انقسام الخلية بما يضمن انتقال المورثات إلى الخلايا الجديدة دائما، وخلال الستينيات من القرن العشرين أتاح ابتكار طرق البيولوجيا الجزيئية وتطبيقها فى بحوث الوراثة اكتشاف الشفرة الوراثية التى تنظم عمل الجينات بواسطة نيرنبرج Nirenberg ومعاونوه عام 1966، حيث تبين أن المعلومات الوراثية تنسخ من شريط دنا فى شكل شفرات ثلاثية إلى شريط حامض ريبوزى يسمى المرسال ثم تترجم إلى بروتينات من خلال تحديد تتابع الأحماض الأمينية فى السلاسل الببتيدية التى تتكون منها البروتينات.


عند نهاية ستينيات القرن العشرين ظن البعض أن علماء الوراثة قد نجحوا فى التوصل إلى كل الاكتشافات اللازمة لمعرفة شفرة الحياة وأنه لم يبقى جديداّ يمكن البحث عنه فى آفاق علم الوراثة، إلا أن قفزة هائلة لعلم الوراثة حدثت عام 1970 باكتشاف هاميلتون سميث Hamilton Smith لإنزيمات القطع الداخلية المعروفة بإنزيمات القصر Restriction enzymes فى خلايا البكتريا، تبعتها قفزة ثانية بتطوير ما يعرف باعادة تشكيل (توليف) الحامض النووىمنقوص الأكسجين أو تكوين دنا معاد الاتحاد Recombinant DNA عام 1973 بواسطة ستانلى كوهين Stanley Cohen وبول بيرج Paul Berg، تلا ذلك ابتكار طرق معملية جديدة لاستنساخ (استنسال) أو كلونة الجينات Gene cloning خلال السبعينيات من القرن العشرين، وهى العمليات التى وضعت الأسس السليمة للمناولات الجينية Gene manipulation التى تبلورت كعلم حديث هو الهندسة الوراثية Genetic engineeringالذى يعنى بالتدخل فى الجينات بالنقل أو التعديل أو الإصلاح.


كان التطوير المستمر لطرق البيولوجيا الجزيئية Molecular biology خلال النصف الثانى من القرن العشرين حجر الأساس لعلم الوراثة الجزيئية Molecular genetics الذى انبثقت عنه الهندسة الوراثية، ويعتبر استنساخ الجينات هو الأساس الذى تقوم عليه عمليات تداول الجينات فى بحوث ودراسات الهندسة الوراثية، وتتطلب عملية الاستنساخ توفر العديد من الأدوات واستعمال الكثير من الطرق فضلا عن وجوب توافر الوسائل والأجهزة والمواد البيولوجية اللازمة لإتمام مراحلها المختلفة، وتتطلب عمليات استنساخ ونقل الجينات عزل دنا من الكائن المطلوب أخذ جين منه ومعالجته ببعض الإنزيمات الضرورية ونقله إلى كائن آخر أى إدخال الجين فى تكوين وراثى جديد، وتضم أهم إنزيمات معالجة دنا إنزيمات القصر التى تقطع الجبنات وإنزيمات الوصل التى تربط الجينات وبعض الإنزيمات الأخرى التى تستخدم لهدم أو بناء أو تحوير الحامض النووى. كما تتطلب عمليات الهندسة الوراثية استخدام نواقل جينية قد تكون أجزاء دنا طبيعية مثل البلازميدات أو دنا الفيروسات أو مصطنعة تتكون من أجزاء طبيعية وأخرى مضافة، وكان تطوير طريقة استنسال الجينات معمليا باستخدام تفاعل البلمرة المتسلسل فى محاكاة بديعة لعملية تضاعف الحامض النووى فى الخلايا حجر زاوية جديد فى المسار السريع لعلم الوراثة أدى إلى تطوير طرق جديدة وفتح آفاق حديثة لعلوم الوراثة، وقد حققت بحوث الهندسة الوراثية قفزة هائلة فى العقود الثلاث الأخيرة كان لها انعكاسات باهرة على علوم الحياة حيث فتحت مجالا رحبا لتطبيقات تكنولوجية حيوية Biotechnology جديدة لها تطبيقات متعددة فى العلوم الأساسية والطبية والزراعية والبيئية وغيرها، كما فتحت المجال لدراسات الجينوم Genomics من خلال اكتشاف طرق حديثة لتشريح وتعديل الجينوم بما لها من آفاق واسعة وتطبيقات عديدة سوف يكون لها انعكاسات باهرة على حياة ومستقبل البشرية.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

error: Disabled