الألمان يعيدون «أبو الهول» لتركيا ويؤكدون ملكية «نفرتيتي»!
في حفل ضخم حضرته شخصيات ثقافية وسياسية ألمانية وعربية احتفل المتحف الجديد في العاصمة برلين بمرور مائة عام على اكتشاف منقبين ألمان التمثال النصفي للملكة الفرعونية نفرتيتي التي يعني اسمها «الجميلة القادمة». في هذه المناسبة التي اعتبرتها إدارة المتحف غير عادية، عرضت أيضا بعض التحف من زمن الفراعنة التي كانت مودعة في خزائن المتحف ولم تر سوى ظلام الأقبية وبعيدة عن أنظار الناس ليشاهدوها لأول مرة ويتعمقوا في معرفة فنون حقبة زمنية حضارية توصف حتى الآن بأنها الأكثر إثارة وأكثر حضارة أثرت الثقافات الإنسانية.
فإلى جانب التمثال النصفي يعرض المتحف أكثر من 400 قطعة فنية، كما تمت استعارة 50 قطعة من متاحف أخرى، منها متحف اللوفر الفرنسي والمتحف البريطاني، بهدف اكتمال صورة فترة حكم نفرتيتي لمصر. وقد تم عرض مقتنيات المتحف على ثلاثة طوابق، بالإضافة إلى أفلام الفيديو التي يمكن مشاهدتها في كل زاوية من القاعات الواسعة لتعطي فكرة للزوار عن بعض الفترات التي اكتشف فيها عالم الآثار الألماني لودفيغ بورخارد أول خيط في منطقة تل العمارنة المصرية والذي أوصله في السادس من ديسمبر (كانون الأول) عام 1912 إلى ذلك الكشف التاريخي المهم والنادر، حيث عثر بالصدفة على التمثال النصفي لملكة الفراعنة نفرتيتي.
ونظرا للقيمة التاريخية الكبرى لتمثال الملكة نفرتيتي النصفي فقد تم التأمين عليه لدى إحدى شركات التأمين العالمية بقيمة تتجاوز الـ390 مليون دولار، وهي الأعلى حتى الآن في تاريخ تأمين القطع الفنية. يذكر أن نزاعا طويلا كان قد نشب بين جهات مصرية وألمانية خلال الفترات الماضية على أحقية تمثال الملكة نفرتيتي الذي يعد تحفة تاريخية نادرة بعد مطالبة مصر باستعادة التمثال لاعتباره ضمن القطع الأثرية التي سرقت من قبل المنقبين الأثريين أو تم إهداؤها من دون العودة إلى المسؤولين المصريين خلال الاستعمار البريطاني مطلع القرن الماضي.
فقد بدأ الخلاف يظهر على السطح قبل بضع سنوات عندما طالب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصرية آنذاك، الدكتور زاهي حواس، بأحقية بلاده احتضان تراثه الفرعوني وعدم بقائه خارج المتاحف المصرية، واحتدم الخلاف ووصل إلى تراشق الكلمات بينه وبين البروفسور ديتريش فيلدونغ.
وازدادت المشكلة احتداما عندما سمح مدير متحف المصريات في برلين لنحات إيطالي بإكمال نصفها السفلي وعرضها عارية، حيث اعتبر حواس ذلك العمل إهانة لأهم رمز من رموز الثقافة المصرية الفرعونية. وحاول إقناع حكومة بلاده بتقديم طلب رسمي إلى الحكومة الألمانية لاستعادة التحفة الفرعونية بسرعة، باعتبارها ملكا للمصريين وأن المنقب الألماني بوخارت عام 1912 أخرجها إلى ألمانيا بناء على وثيقة غير قانونية.
واحتدم الخلاف بين الطرفين المصري والألماني عندما رفضت إدارة متحف المصريات في برلين إعارة مصر «الملكة نفرتيتي» كي تعرضها في متحفها الوطني في إحدى المناسبات المصرية المهمة، وقدم الجانب الألماني الكثير من التعليلات لرفضه، منها قلة معرفة المصريين لتقنية الحفاظ على القطع الأثرية المهمة وعدم تمكنهم من حمايتها من الأضرار خلال نقلها.
إلا أن السبب الحقيقي الذي انكشف فيما بعد هو الشكوك الألمانية بأن مصر لن تعيد التحفة الأثرية إلى المتحف الألماني بعد ذلك. لذا لم يأت الرفض فقط من إدارة المتحف الألماني، بل من الكثير من أعضاء مجلس النواب الاتحادي لنفس الأسباب السابقة، مما جعل القضية تتخذ منحى جديدا وتهدد التعاون المصري – الألماني في مجال التنقيب، خاصة بعد أن قلل حواس من شأن حجج وزير الثقافة الألماني بيرت ناومان الذي تبنى موقف النواب، وبذلك فقد فتح ملف لم يغلق إلى اليوم رغم أنه يدخل بين الحين والآخر في فترة هدوء أو حالة جمود.
ويبدو أن المتاعب هي القدر الذي يطارد تمثال الملكة نفرتيتي منذ اكتشافه في مصر مرورا بعملية نقله لمتحف المصريات بعد الوحدة الألمانية عام 1989، حيث استلزم الأمر تقنيات ووسائل حماية على مستويات فائقة حتى لا يتعرض التمثال لأي خطر رغم ما بدا من الحرص الألماني على سلامة التحفة الفرعونية الثمينة، إلا أن الخلافات لم تتوقف بين إدارة متحف المصريات ببرلين وزاهي حواس بعد مطالبة الأخير عام 2007 وزير الثقافة الألماني ناومان مرة أخرى عبر رسالة موجهة إليه لاستعارة التمثال النصفي لمدة ثلاثة أشهر يوم افتتاح المتحف المصري الجديد، وهدد يومها إذا ما تلقى رفضا بأنه سيلجأ إلى طرق أخرى كدعوة إدارات متاحف عدد من البلدان مثل الصين وسوريا والمكسيك كي تضع مع مصر لائحة بكل القطع الأثرية المطلوب إعادتها إلى بلادها الأصلية، خاصة الموجودة في المتاحف الألمانية.
تمثال ابو الهول الذي استرجعته تركيا من ألمانيا :
ولقد بدأت قصة التنقيب في تل العمارنة على زمن الأب اليسوعي كلود سيكار عام 1714، حيث اكتشف قطعا مهمة في المدينة القديمة اشات اتان، تبع ذلك اكتشافات قيل إن نابوليون بونابرت أمر بالتنقيب عنها ونقلها إلى فرنسا، وهو ما يتوافق مع تأكيد علماء آثار ألمان اليوم بأن الحفريات بدأت منذ ذلك الحين وحتى منتصف القرن الماضي، ولا يعرف مصير القطع الأثرية المكتشفة آنذاك؛ لأن معظمها وجد طريقه إلى بلدان المنقبين الفرنسيين والبريطانيين واختفى بعضها في الدهاليز المظلمة.
ولم يكن علماء الآثار الألمان بعيدين عن تلك الممارسات، فقد افتتحت ألمانيا القيصرية عام 1899 قنصلية لها في القاهرة، مما سهل ذهاب عالم الآثار الألماني لودفيغ غرهارد إلى مصر والبدء عام 1907 بالتنقيب دون إشراف مصري مباشر، وذلك بصفته مدير المعهد القيصري للآثار المصرية القديمة الذي كان قد افتتح فرعا له في القاهرة ويحمل اليوم اسم «معهد القاهرة للآثار»، ولقد سمح له مركزه بالحفر في تل العمارنة بعيدا عن أنظار المصريين حينذاك، وكان يتم تمويله سنويا بنحو 30 ألف مارك قيصري من تاجر القطن البرليني جيمس سيمنز، حيث كان حلم ذلك التاجر هو العثور على آثار تنافس الآثار التي عثر عليها الفرنسيون والبريطانيون.
وفي السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1912 عثر العمال في بقايا بيت بني من الطوب على التمثال النصفي للملكة الفرعونية نفرتيتي فوضعه عالم الآثار الألماني غرهارد تحت رقم 748على قائمة الآثار التي يتم العثور عليها مع عبارة قصيرة تقول: «تمثال نصفي للملكة». ويعتقد البعض أنه أراد بذلك إخفاء قيمة الأثر الذي عثر عليه. وكان التنقيب يتم وقتها بناء على قانون تقسيم الآثار المكتشفة مناصفة، أي أن بعثة التنقيب تحصل على نصف القطع التي تعثر عليه والنصف الثاني يكون حصة مصر، وهذه هي نقطة الخلاف. فالمصريون يتهمون المنقبين الألمان بأنهم أخفوا حقيقة قيمة التمثال النصفي وأعطوهم تماثيل أقل قيمة منها.
وفي عام 1913 حصل التاجر البرليني على إذن من أجل نقل الملكة نفرتيتي إلى برلين فوضعها في الفيللا التي يسكنها من أجل عرضها، فتحول المكان إلى نقطة التقاط لمحبي القطع الأثرية القيمة من كبار السياسيين الألمان، من بينهم أدولف هتلر.
وخلال الحرب العالمية الثانية أودعت الملكة الفرعونية أولا في قبو أحد المصارف، ثم في قبو محصن في وسط برلين، بعدها نقلت نهائيا إلى منجم للملح في مقاطعة تورينغن. وبعد احتلال الجيش الأميركي لبرلين حاولت الإدارة الأميركية العسكرية الحصول على التمثال، لكن من اللافت أن يتصدى لهذه الرغبة فالتر فارمر الضابط الأميركي الذي عين مسؤولا عن إدارة وحماية الكنوز الثقافية، وبمبادرة منه نقلت أولا إلى المتحف الإقليمي في مدينة فيسبادن، بعد ذلك إلى متحف برلين الغربية أواخر عام 1947 وبقي هناك حتى عام 1956، وهو ما أثار استياء سلطات ألمانيا الشرقية التي سيطرت على منطقة المتاحف في برلين الشرقية وكانت تريد الحصول هي أيضا على التمثال.
ولم تعرف الملكة الفرعونية الراحة في ألمانيا، فكانت تنتقل من مدينة إلى أخرى ومن متحف إلى آخر، وحطت الرحال مرة أخرى في برلين، حيث وضعت عام 1957 في متحف دالم للفنون والرسم، وبعد عشر سنوات نقلت إلى مستشفى شارلوتينبورغ التابع لجامعة برلين لإجراء تصوير مقطعي لها لجمع بيانات عن تكوينها. بعدها أودعت متحف المصريات في منطقة شارلوتنبورغ في برلين حتى الـ13 من أغسطس (آب) عام 2005.
ومن حين لآخر يشتعل النزاع على تمثال الملكة الفرعونية، خاصة بعد الرسالة الرسمية التي أرسلها رئيس الوزراء المصري الأسبق أحمد نظيف إلى وزير الثقافة الألماني ناومان يطالبه فيها باسترجاع التمثال، فيما أكدت برلين أنها كانت موجهة إلى المؤسسة البروسية المسؤولة عن المتاحف والموقع عليها حواس نفسه.
الغريب في الأمر هو الموقف الغامض لهيئة الآثار الحالية في مصر والتزامهم الصمت وعدم التعليق على الموضوع عندما سألناهم، بينما أكدت مصادر من داخل المكتب الإعلامي للمجلس الأعلى للآثار المصرية استمرار قيام البعثات الأثرية الألمانية بالتنقيب عن الآثار في مصر، وعدم تأثرها بالنزاع الألماني – المصري الذي كان قد أثير في الفترة الماضية حول تمثال نفرتيتي.
وعلى خلاف ما يحصل بين ألمانيا ومصر وبعد سبعين سنة كاملة من النزاع، اضطرت ألمانيا لإعادة تمثال لـ«أبو الهول» يعود إلى عهد الحيتيتيين، إلى تركيا. ويعود هذا التمثال إلى ثلاثة آلاف سنة وكان معروضا بمتحف “برغام” في برلين منذ 1934. وقبل أشهر كان وزير الثقافة التركي وجه تهديد شديدا لألمانيا بعدم السماح لعلماء الآثار الألمان بالعمل في تركيا في صورة عدم إعادة التمثال إلى انقرة.
وفي شهر مايو قررت ألمانيا أخيرا إعادة التمثال الذي وقع اكتشافه بالأناظول سنة 1907 مع آلاف القطع الأثرية الأخرى.
وبعد رحيل «أبو الهول» تبقى «نفرتيتي»، التي يزورها بمتحف برلين سنويا أكثر من مليون زائر، في انتظار موقف مصري ضاغط لتعود إلى وطنها.. ولكن يبدو أن الحزم التركي مفقود عند المصريين الذين تركوا «الجميلة» بأيدي الألمان يفاخرون بها ويؤكدون ملكيتها.. إلى الأبد.
المصدر : عدن الغد