قلعة لندن تتحول من سجن لإعدام الملوك والأمراء الى معلم يستقطب ملايين السياح
لندن "المسلة" …لم يكن الملك النورمندي (وليام الاول) المشهور بلقب وليام الفاتح يتخيل ان تتحول القلعة التي امر ببنائها عقب غزوه الناجح لانجلترا في القرن الحادي عشر ميلادي من برج لتحصين ملكه على ضفاف نهر تايمز في لندن الى اشهر سجن لاعدام الملوك والامراء في العصور الوسطى.
وغدا أحد اكبر المعالم السياحية والثقافية في العاصمة لندن التي تجتذب اليها ملايين السياح سنويا من شتى اصقاع العالم حسب كونا.
وبدأت قصة هذا المعلم السياحي الكبير على الضفة الشمالية لنهر تايمز بمحاذاة (جسر القلعة) عندما ارسل وليام الفاتح كتائب من جنوده واتباعه لتهيئة وصوله الى لندن عقب نصره الكبير في معركة (هايستينغز) في تاريخ 14 اكتوبر 1066 الذي يؤرخ لانتزاعه حكم انجلترا من هارولد الثاني اخر ملوك سلالة الانجلو ساكسونيين.
وكانت فكرة وليام الاول من تشييد مبنى يتألف من مبان عدة اشهرها القلعة البيضاء وحصون وابراج عالية وخندق مائي تهدف الى ابراز سطوته كملك جديد على انجلترا وعلى سكان لندن بشكل خاص والتي أصبحت منذ ذلك التاريخ عاصمة للبلاد عوضا عن وينتشستر.
وتم الانتهاء من بناء اغلب اجزاء القلعة في عام 1078 حيث اصبح لها وظائف متعددة وذات اهمية حيوية للنظام الملكي الجديد فاستخدمت كإقامة ملكية ومصنع ومستودع للاسلحة كما استخدمت كبيت للمال ومخزن للمعادن النفيسة.
غير ان اعتلاء هنري الاول سدة الحكم في عام 1100 خلفا لشقيقه الثاني وليام روفوس او وليام الثاني الذي خلف والدهما وليام الاول المتوفى في عام 1087 ما فتئ ان حول القلعة الى مكان مفضل لحبس كبار الموظفين والمستشارين قبل ان يطال الأمر أفراد الأسر الحاكمة وحتى الملوك والأمراء وزوجات الملوك في القرون اللاحقة.
فكان اول من سجن في القلعة مباشرة بعد اعتلاء هنري الحكم أسقف دورهام رانولف فلامبارد الذي كان حافظا لاختام الملكين وليام الاول والثاني وكان وزيرا مكلفا بجمع الضرائب التي كانت سببا في سوء سمعته بين النبلاء فقرر الملك الجديد التضحية به من اجل استمالة الرعية اليه.
الا ان فلامبارد احتفظ لنفسه في التاريخ ايضا بكونه اول سجين ينجح في الهروب من القلعة ومغادرة انجلترا الى نورمندي شمالي فرنسا التي كان يحكمها النجل الأكبر للملك وليام الاول الدوق روبرت كورثوز (روبرت الثاني).
وكان روبرت الثاني في صراع مع شقيقه الأصغر الملك هنري الاول حول تركة أبيهما واستيلاء الأخير على عرش انجلترا عندما كان الاول ضمن جيوش الحملة الصليبية الأولى على بيت المقدس منذ عام 1096.
وعمل فلامبارد على تأجيج دوق نورمندي بهدف غزو انجلترا وتنحية أخيه من العرش الا ان الأمر انتهى بعد معارك عدة بانتصار هنري الذي غزا بدوره نورمندي وتمكن من اعتقال روبرت الثاني وعمه روبرت (ايرل مونتان) بعد معركة تينشبراي في عام 1106.
فأصبح بذلك النجل الاكبر للملك الفاتح ثاني سجين في قلعة لندن قبل ان ينقل الى سجن قصر ديفيس جنوبي غرب انجلترا ثم الى قلعة كارديف في ويلز التي توفي فيها سجينا في عام 1134.
ومع توالي الملوك على حكم انجلترا ازداد دور قلعة لندن كأداة لتثبيت الحكم وقمع الخصوم فدأب عدد من الملوك على انفاق الكثير من المال والجهد في اعمال التوسعة والتحصين بداية من الملك ريتشارد الاول المشهور بقلب الاسد الذي حكم بين اعوام (1189 و1199) وكان احد ابرز قادة جيوش الحملة الصليبية الثالثة.
وكان لهنري الثالت الذي حكم بين (1216 و1272) و ادوارد الاول (1272 و1307) دوران في اعطاء القلعة مكانة كبيرة في نظام الدولة حيث اصدر الثاني مرسوما في عام 1279 يقضي بنقل دار سك العملة الملكية الى احد اجنحة القلعة لتمكث هناك نحو أربعة قرون ونصف القرن.
ومنذ بداية القرن الرابع عشرة والى فترة اعتلاء تشارلز الثاني عرش انجلترا في عام 1660 اصبح للقلعة دورا في مراسيم تقليد الملوك والتي تبدأ بخروج الملك المتوج من البرج في موكب متوجها الى دير ويستمنستر لنيل مباركة الكنيسة ورجال الدين.
ولذلك كان منصب حاكم القلعة يتمتع بمكانة كبيرة في نظام الحكم لكون صاحب هذا المنصب كان يعد نائبا للملك في ادارة شؤون القلعة وكل المؤسسات الملحقة بها.
وشهدت القلعة على مر العصور سجن عدد كبير من الشخصيات التاريخية بين اسوارها التي ترتفع الى اكثر من 27 مترا حيث كان من بينها (كونستانس اوف فرنس) بنت ملك فرنسا لويس السادس وشقيقة الملك لويس السابع عام 1150 و هوبرت (ايرل كنت) الذي كان فارسا في الحملة الصليبية الثالثة وجون باليول ملك الاسكتلنديين بين عامي 1292 و1296 وسير وليام لورد دوغلاس الذي قتل في القلعة في عام 1298.
وشهدت القلعة سجن واعدام قائد حروب استقلال الاسكتلنديين وليام ولاس عام 1305 وملك اسكوتلندا ديفيد الثاني في عام 1346 وبعده ملك فرنسا جون الثاني الذي اعتقل بعد هزيمته في معركة بواتييه في عام 1356 ثم تلاه ملك انجلترا ريتشارد الثاني في عام 1399 والذي قتل في نفس العام.
وفي القرن الخامس عشرة كان ملك اسكتلندا جيمس الاول اول من يسجن في القلعة في عام 1406 تلاه تشارلز دوق اورلينز بينما كان ملك انجلترا هنري السادس اشهر سجين في هذا القرن حيث سجن وتوفي بين اسوار القلعة البيضاء في عام 1471 بعد هزيمته في معركة (توكزبيري) ضمن حروب الوردتين بين اجنحة العائلة المالكة (بيت لانكاستر) و(بيت يورك).
واعتقل في تلك الفترة جورج بلانتجينيه دوق كلارنس وسالسبيري ووريك وهو شقيق الملكين ادوارد الرابع وريتشارد الثالث وبعده قضى الملك الصغير ادوارد الخامس وشقيقه الاصغر ريشارد اوف شروزبيري المشهورين بلقب (اميري القلعة) اخر ايامهما في القلعة بعد ان امر عمهما ريتشارد الثالث بقتلهما لمنع انتقال وراثة العرش اليهما من ابيهما الملك ادوارد الرابع الذي توفي في عام 1483.
لكن هذه الرواية ما تزال محل خلاف كبير بين المؤرخين البريطانيين بسبب غياب ادلة واضحة على الجريمة ودوافعها.
فضلا عن كون تلك المرحلة من التاريخ الانجليزي شهدت مؤامرات وحروب طويلة للاستيلاء على الملك والتي انتهت بمقتل عدد من الملوك الذين كان من ضمنهم الملك ريتشارد الثالث نفسه بعد هزيمته في معركة بوزورث في عام 1485 والتي وضعت حدا لحروب الوردتين.
في المقابل يجمع المؤرخون على ان العصر الذهبي لسجن قلعة لندن كان في القرن السادس عشرة وتحديدا مع بداية حكم هنري الثامن الذي قاد انفصال انجلترا عن السلطة البابوية وأسس كنيسة انجلترا الانجليكانية والتي ادت فيما بعد الى سجن عدد كبير من اتباع المذهب الكاثوليكي في قلعة لندن.
ويشتهر هنري الثامن الذي حكم بين عامي 1509 و1547 بتعدد زوجاتها وبحملة الاعدامات بقطع الرؤوس ضد كل من خالفه الى ان طال الامر زوجتيه الثانية ان بولين في عام 1536 و الخامسة كاثرين هاورد في عام 1542 وعدد من اقربائهما بتهمة الخيانة.
وفي عام 1554 امرت الملكة ماري الاولى باعتقال واعدام الملكة غير المتوجة المشهورة بلقب ملكة التسعة ايام والحفيدة الاولى للملك هنري السابع ليدي جين غري وزوجها لورد غيلدفورد دادلي.
وفي نفس العام قضت الملكة اليزابيث الاولى قبل اعتلائها العرش شهرين في سجن القلعة ثم عاما تحت الاقامة الجبرية بتهمة المشاركة في ثورة (توماس ويت) ضد قرار شقيقتها الملكة ماري الزواج من ملك اسبانيا فيليب الثاني الا ان اليزابيث عاشت لتخلف شقيقتها في الحكم الذي امتد لها بين اعوام 1558 و1603.
وفي القرنين السابع والثامن عشرة لم تشهد القلعة سجن الكثير من الشخصيات الكبيرة واقتصر الامر على عدد من النبلاء والكتاب والشعراء من امثال هنري رايوثيسلي (ايرل ساوثهمبتون) وسير والتر رايلي الذي قضى 13 عاما في القلعة بين اعوام (1603 و 1616) ألف خلالها كتابه المعروف (تاريخ العالم).
وفي عام 1712 تم حبس سير روبرت ولبول بتهمة الفساد لكنه في عام 1721 اصبح يشتهر تاريخيا بكونه اول رئيس وزراء لبريطانيا العظمى التي نشأت بعد عقد الاتحاد بين انجلترا واسكوتلندا الذي وقع في عام 1707 في عهد الملكة آن.
اما اخر من اعدم في القلعة من موظفي الدولة في عام 1941 فكان الجاسوس الالماني جوزيف جاكوبس الذي القي عليه القبض خلال الحرب العالمية الثانية بعد ان قفز بمظلة داخل الاراضي البريطانية.
في حين كان نائب زعيم الحزب النازي رودولف هاس اخر رجل دولة يسجن في القلعة في عام 1941 ثم نقل الى سجن اخر في مقاطعة ساري غرب لندن الى غاية مايو 1945 تاريخ تسليمه الى محكمة نورمبيرغ الدولية.
واليوم تحول هذا السجن الى متحف تاريخي مميز يحتفظ بين جدرانه بتيجان وصولجانات الملوك الاوائل كما اصبح بمثابة معلم سياحي كبير في قلب العاصمة البريطانية حيث زاره العام الماضي ما لايقل عن مليوني و550 ألف سائح من شتى انحاء العالم.